في كل عام، وفي الرابع عشر من شهر أغسطس/آب تحل ذكرى مذبحة رابعة، ذكرى الألم والأمل والعِبَرات والعَبَرات.. ذكرى الدم والنار والثارات.. ذكرى يوم هو الأكثر دموية في تاريخ مصر المعاصر لم يكن مصري يحلم بالحرية لأهل وطنه، وبالسلامة لبلده يتخيل أن يطول به العُمر فيراه رأي العين، يوم اختنقت فيه الروح، وبلغت القلوب الحناجر، حتى تمنى كل منا لو أنه مات قبل هذا اليوم، وكان نسياً منسياً.
وفي كل عام تتجدد فيه الذكرى تبقى العَبَرات ساخنة على رابعة، ومن ماتوا فيها، وعلى حالنا بعدهم، لكن مع العَبَرات تبدو الحاجة ملحّة إلى استخلاص الدروس والعِبَرات، وأتأمل في حالي فأراني بحاجة إلى النظر إلى المذبحة بثلاث عيون: عين الباحث، وعين الثائر، وعين الإنسان، فما الذي ستخبرنا به كل عين من هذه العيون عن مذبحة رابعة في ذكراها الثالثة؟
***
أما العين الأولى، فهي عين الباحث، ذلك الباحث الذي يحاول أن ينتزع نفسه من معايشة الأحداث، تلك المعايشة التي تحجب القدرة على الرؤية الصحيحة، واستجلاء وجه الحقيقة فيما يرى أو يسمع، فروح الباحث تدفع صاحبها نحو البحث عن أسرار الظواهر واستقراء الأحداث، متلمساً أوجه الشبه والاختلاف فيما بينها، وعلى الرغم من تعقد الظروف والملابسات المحيطة بالمذبحة، التي يستحق كل محور منها وقفة متأنية للتأمل والدراسة، فإن سؤالاً واحداً كان يلح وقت وقوعها: هل شهد التاريخ المعاصر مذبحة كرابعة؟ وإذا كان قد حدث: فما أوجه الشبه والاختلاف بينها وبين رابعة؟
ثلاث مذابح رابعتها رابعة؛ كانت الأولى في الهند في يونيو/حزيران 1984 ضد السيخ المتحصنين في معبدهم الذهبي أكثر الأماكن قداسة لديهم، وكانت المذبحة بأمر من رئيسة الوزراء وقتها أنديرا غاندي، وكانت المذبحة الثانية في أنديجان في مايو/أيار 2005 التي نفذها طاغية أوزبكستان إسلام كريموف بحق معارضيه من الإسلاميين، وكانت الثالثة هي مذبحة المسجد الأحمر في باكستان يوليو/تموز 2007 التي نفذها برويز مشرف ضد متشددين إسلاميين معارضين لتوجهات الحكومة الموالية للولايات المتحدة في حربها ضد طالبان، ثم كانت الرابعة "رابعة" بكل ما فيها من مشاهد ودماءٍ ومآسٍ وفواجع، فكان لها نصيبٌ مما شهدته المذابح السابقة من أحداث، وكأن مَن ارتكبوا مذبحة رابعة درسوا هذه المذابح الثلاث جيداً، وحذوا حذو منفذيها شبراً بشبر.. وذراعاً بذراع.
اتهمت السلطات المعتصمين في الحالات الثلاث بأنهم مسلحون، وإن لم يصلوا إلى مستوى اتهام المعتصمين بتصنيع أسلحة ثقيلة كما ادعى إعلامنا الأخرق بشأن "رابعة"؛ في الهند ادعت السلطات أن المعتصمين يحتجزون أناساً على غير رغبة منهم، وقامت أيضاً بتعطيل الاتصالات والسكك الحديدية عشية ارتكاب المذبحة، وفعل مرتكبو مذبحة رابعة مثلهم، وفي باكستان ادعت السلطات أنها قبضت على إمام المسجد الأحمر متخفياً في زي امرأة، تماماً كما أذاع إعلامنا الأخرق بشأن مرشد الإخوان، وفي أوزبكستان اتهمت السلطات المعتصمين بالإرهاب والتطرف، ولم تسمح بأي تغطية إعلامية للمذبحة، تماماً كما أخرج منفذو مذبحة رابعة مندوبي الإعلام من موقع المذبحة.
ومن أصر منهم على البقاء كان نصيبه القنص أو الاعتقال، وحين أتاحت سلطات أوزبكستان لمندوبي وسائل الإعلام تغطية آثار المذبحة لم يُسمح لهم بالدخول إلا عبر طرق حددتها السلطات دون غيرها، وبعد أن أزالت آثار جريمتها، وحملت جثث الضحايا لدفنها في مقابر جماعية بعيداً عن موقع الأحداث. ومن بعد المذبحة، وحتى الآن، ما زال طاغية أوزبكستان يرفض إجراء أي تحقيق دولي في المذبحة، وفي المذابح الأربع كان التفاوت رهيباً بين التقديرات الرسمية والأرقام الفعلية لأعداد القتلى والمصابين.. وهل شهدت رابعة غير هذا كله؟!
لكن دروس التاريخ وعِبَره لا تأخذ مساراً واحداً بالضرورة، فلئن كانت أنديرا غاندي قد دفعت مبكراً ثمن جريمتها حين قتلها حارسان من حراسها الشخصيين من طائفة السيخ بعد أربعة شهور من مذبحة المعبد الذهبي، ولئن أضاع برويز مشرف مستقبله السياسي ثمناً لمذبحة المسجد الأحمر، إلا أن إسلام كريموف ما زال رئيساً لأوزبكستان رغم مجزرته الدامية بحق الإسلاميين المعارضين له، ورغم القمع الذي يمارسه بحق معارضيه، ولسان حاله يقول للغرب ولروسيا في آن واحد: أنا حليفكم في معركتكم ضد الإرهاب، أنا خندق الدفاع الأول عن مصالحكم، ولعل هذا هو حال "صاحبنا" وهو يخاطب الغرب قائلاً: "بس انتو ادونا الأباتشي"، التي يعلم الغرب جيداً أن أسلحتها مصوبة ضد المتشددين في سيناء، حتى وإن راح ضحية لها أبرياء من أهل سيناء الغالية المغبونة: بشراً وشجراً وحجراً، فيما يتوجه إلى الإخوان بلهجة وعيد، ولسان حاله: "وإن عدتم عدنا"، لكنه إن ظن أنها طابت واستقامت له اليوم، فمن يدري كيف يكون الحال غداً، فقد يؤتى الحريص من مكمنه!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.