الكأس نفس الكأس، والليمون والسكر لم يتغيرا.. ولكن النفوس تبدلت!!
هكذا أوجز الكاتب والمفكر الراحل مصطفى محمود في كتابه الرائع الذي اختار له اسم الطوفان؛ لينبئنا قبل عقود أن تغير نفوسنا يجعلنا غير منتبهين للطوفان الذي بات يقترب!!
وهذا هو حال بلادي التي أصبحت المواقع العالمية -مثل الإيكونومست وغيرها- تستخدم ألفاظاً مثل "الهاوية" و"الانهيار" لوصف حالها.. فكيف لا ينتبه 100 مليون مصري جميعهم يقسمون صباح مساء أنهم يحبون بلادي؟.. أنهم هم المخلصون.. أنهم فقط من منَّت عليهم الأقدار بالرأي الرشيد والرجاحة الأكيدة..
والآن بطعم الحنظل في الحلوق دعونا نتساءل:
كيف نمرر هكذا ضياع الجزيرَتين الاستراتيجيتين تيران وصنافير؟.. كيف نمرر سد النهضة الذي سيجعل مستقبلنا يركع من أجل شربة ماء؟ كيف نصمت على صلف عدونا التاريخي الصهيوني الذي بات يطالبنا بأملاكه التي تركها حين رحل غير مأسوف عليه في خمسينات القرن الماضي؟ وهو الذي غزا واستولى وغدر بأسرانا في 67؟
كيف نترك عملتنا المكلومة بنا وبسوء تقديرنا وتدبيرنا تتراجع واصفة أحوالنا اليوم دون تحيز، نحن من قدمنا للعالم "كفتة" تعالج الإيدز؟
ويبقى السؤال الأصعب: كيف مررنا الدماء الزكية المسفوحة في شوارعنا، والأرواح البريئة المجتثة في سينائنا؟
كيف يطيب لنا العيش والمعتقلات تحتضن داخل أسوارها الشبيهة بجلود الأفاعي أنجب وأفضل وأخلص وأشجع مَن فينا؟
الطوفان يقترب.. ونحن نطوف حول كعبة بناها الشيطان لإلهائنا.. ونحن قد استسلمنا له استسلام بنات الهوى لمن يدفع أكثر.. فأمسينا في دوامة مفرغة لا لشيء إلا لأن النفوس تغيرت..
منذ متى كان الجار يحتفل وفي الجوار شهيد ترثيه أمه المكلومة بحجة أنه إخواني أو إسلامي، منذ متى؟
منذ متى ونحن نقبل إطلاق النار على النساء في الشوارع، أو حتى ضربهن أو التحرش بهن، كما شاهدنا جميعاً في فيديوهات قبل أن تفضح دناءة وحوش شرطتنا غير الآدمية، لعمري أراها تفضح ضعفنا، وترددنا وقلة حيلتنا.. وتمريرنا كل ما يأبى الحر تمريره.
يقترب الطوفان وما زال هناك من يلوم الإخوان -ما زال- لأنهم أساءوا التصرف في السلطة الاسمية التي حازوها، وقد فعلوا!!
يقترب الطوفان والإخوان ما زالوا يتندرون ويلوكون ألسنتهم سخرية من الليبراليين الذين ارتموا في أحضان العسكر حانثين بكل ما يؤمنون به ثم صمتوا كالقبور، وقد فعلوا!!
يقترب الطوفان والأخوان ما زالوا يبشرون بعودة الرئيس مرسي ودليلهم بضع رؤى مبشرة للصالحين منهم!!
يقترب الطوفان ومن انجروا لخدعة 30 يونيو/حزيران لا لشيء إلا لمراهقة سياسية وحداثة تجربة ما زالوا يسخرون من المبشرين بتلك العودة المنتظرة التي ستملأ الأرض عدلاً، كما مُلئت جوراً!!
صداع وضجيج ونفوس تغيرت لشعب كان قديماً يوصف بالطيبة والشهامة والجدعنة والأصل، جحيم على ظالميه، رؤوف بمظلوميه.. فاستيقظنا فجأة في لحظة عجب وقد تحول لشعب يكيد بعضه بعضاً، بأسه بينه شديد، وعلى أعدائه رقيق كخد العذارى في الليل الونيس.
بل لقد أجابني أحد الأصدقاء من أبناء الطبقة الموسرة حين سألته عبر الهاتف عن أحوال مصر التي يئن قلبي لفراقها قائلاً: إذا غضب منك أحدهم لا يدهشك إن جلب لك زبانية الشرطة بتهمة أنك إخواني.
والعجب الأكبر، والجرح الأدمى، نخبة ألبسناها يوماً ثوب البطولة، وائتمناها على ثورة شبابنا في يناير/كانون الثاني، فإذا بالواحد منهم إن نازعه ماضيه وراودته نفسه وحرضه ضميره على أن يصدع ببعض الحق، تراه يعود مهرولاً بتصريح يصدر كبرق أرعن، يدعم استمرار السيسي لحجج ليست من السياسة في شيء، بل ليست من الأخلاق في شيء!!
وآخر يدرك أن الوطن يسير بالجميع مندفعاً صوب الهاوية، ويجد في وقته متسعاً للسفر إلى لبناننا المكلوم بسرطان قتلة أشقائنا السوريين، وهو يعلم أن في هذه الزيارة دعماً لمحور الشر اللصيق، أي نفاق؟!!
وثالث صمت بعد أن منعت عنه ولائم الجيش التي كانت سبباً وجيهاً لتستره على دستور قد تبدل بالليل، ويالطرافته، برر ذلك بخشيته من شماتة الإخوان!!
ورابع وخامس وسادس، سقطت عنهم جميعاً أقنعة الزيف والتدليس وخداع العامة ببريق شعارات هم أول من خانوها!!
الطوفان يقترب يا سادة، والديون تورث للأجيال القادمة، والأعداء يتوغلون أكثر، والتخريب في الشخصية المصرية جارٍ العمل فيه على قدم وساق.
والشعب صامت؛ لأن أحداً أو جماعة لم يضيئوا له بصيص ضوء في آخر النفق المروع.
ولا نجاة إلا بعودة النفوس التي تبدلت سيرتها الأولى التي لطالما توحدت واصطفت على رفض كل ما هو رخيص، وتقديم كل ما هو أسمى وأنفع.. إلا فيما ندر.
وطوبى لمن يستفيق قبل فوات الأوان.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.