لقد كانت الحوادث التي اتخذت مجراها في تركيا في الأسابيع الماضية متسارعةً ومثيرةً بل وعسيرةً على الفهم للمتابعين الأجانب، وبدرجةٍ أقل للمواطن التركي كذلك. فمن ناحية تفاجئ الجميع بمستوى تغلغل تنظيم غولن الإرهابي في مؤسسات الدولة وأجهزتها الحساسة وكذلك بمستوى جرأته على الإقدام على خطوات حتى من قبيل إطلاق النار على المدنيين وقصف البرلمان التركي الذي يمثل الإرادة الشعبية بغية تحقيق أهدافه الانقلابية. ومن ناحية أخرى، أظهر الشعب التركي بمختلف شرائحه المجتمعية شجاعةً وبصيرةً منقطعتي النظير في التصدي للمحاولة الانقلابية من خلال نزوله للشارع انتصاراً لديمقراطيته، كما مثل الدور الحازم والقيادي الذي أظهره الرئيس أردوغان دفعةً للحراك الشعبي. هذه الحوادث وغيرها دفعت باتجاه تحولات بنيوية في كيفية تحليل وقراءة المشهد التركي.
لم يكن تفسير الحوادث المتعلقة بتركيا سهلاً في يوم من الأيام. فالتاريخ السياسي الفريد والموقع الجيوسياسي المعقد جعل من فهم السياسة التركية وتعقيداتها مهمةً ليست بالسهلة. تحليل السياسة التركية كان في كثير من الأحيان أيضاً ضحية للانحياز السياسي بل وحتى للتفكير الرغائبي. بينما عمل الفكر الاستشراقي، الإسلاموفوبيا، والتحيز السياسي على زيادة الطين بلة في حالة الإعلام والدراسات الغربية المتعلقة بتركيا. حيث لا يحتاج الأمر لكثيرٍ من المصطلحات حتى يجد لنفسه مكاناً بين المحللين والمتكلمين في الشأن التركي في الغرب، فكلمات من قبيل سلطان، تسلط، أسلمة كفيلة بنشر أي مقال يحتويها، ووصف أردوغان بالمستبد سيجعل منك محللاً في الشأن التركي. على العكس من ذلك فقليلٌ من الانصاف سيؤدي إلى إسقاط اِسمك من قائمة المتحدثين في الشأن التركي. لقد مثّل فشل المحاولة الانقلابية في الخامس عشر من الشهر الجاري فرصةً ليست فقط لتركيا والأتراك بل أيضاً للصحفيين والمحللين الأجانب ليراجعوا ما ظنوا أنّها مسلمات حول تركيا طيلة فترة تغطيتهم السابقة، وبالتأكيد ليتخلوا عن انحيازهم. هذا لا يعني عدم وجود باحثين وصحفيين يسعون لتحليل وفهم المشهد التركي بموضوعية وتجرد، لكن المؤسف في هذا الصدد أن عددهم قليل جداً، في حين فُتح المجال للمتحاملين على تركيا الذين يتحينون الفرصة للنيل منها.
لقد أثبتت محاولة الانقلاب الفاشلة وما تكشف بعدها من معلوماتٍ حول تنظيم غولن الإرهابي أن مخاوف الرئيس أردوغان والإجراءات التي اتخذها في السنوات الماضية كانت محقة، في الوقت الذي كان الإعلام الغربي يفسر ما يجري بالحديث عن جنون العظمة الذي أصاب أردوغان على حد زعمهم. فلقد ظهر أن محاولة اعتقال رئيس جهاز الاستخبارات في السابع من شباط/فبراير 2012 وكذا دعاوي الفساد التي رفعت ضد الحكومة في 17 و25 من شهر كانون الأول/ديسمبر 2013 يقف خلفها نفس التنظيم الذي سعى لإسقاط الحكومة بالمحاولة الانقلابية الأخيرة. بالإضافة إلى الاعترافات التي أدلى بها المتآمرون في القضية الانقلابية، فإن تورط تنظيم غولن بالمحاولة الانقلابية يكاد يكون قناعةً راسخةً لدى كافة أفراد الشعب التركي. فعلى الرغم من أن الشعب التركي لم يكن يتوقع مستوى العنف الذي قد يلجأ إليه التنظيم المذكور لتحقيق أهدافه، إلا أنه لا يكاد يوجد مواطن تركي لم يمر بتجربة سيئة مع التنظيم، حتى أنه يمكننا القول أنّ استخدام تنظيم غولن للطرق الملتوية والجريمة لتحقيق أهدافه مسألة لا خلاف عليها في الشارع التركي. لقد ظهر للجميع بعد تكشف العديد من الحقائق أن أعضاء التنظيم كانوا ذئاباً يختبئون بمظهر النعاج، فلطالما ابتزوا رجال الأعمال والسياسيين، وسرقوا الأسئلة الامتحانية ووفروها لأتباعهم وتغلغلوا في أجهزة الدولة وشكلوا شبكة علاقاتهم الخاصة "التنظيم الموازي" التي تتحرك وفق أوامر التنظيم وليس مصلحة الدولة، ولعل هذا الأمر هو ما يفسر الحملة المدعومة شعبياً والتي تقوم بها الحكومة ضد شبكة تنظيم غولن وأتباعه المتغلغلين في أجهزة الدولة. عدم أخذ هذه الحقائق بالاعتبار بما فيها الدعم الشعبي حتى من المعارضة لإجراءات الحكومة يؤدي بطبيعة الحال إلى فشل التحليلات المتعلقة بمحاولة الخامس عشر من تموز/يوليو الانقلابية .
نزل الشعب التركي بعموم شرائحه إلى الشارع متصدياً لهذه الطغمة العسكرية الصغيرة داخل الجيش والتي تتبع لتنظيم غولن. الشعب التركي الذي لطالما تم إسقاطه من حسابات المحللين السياسيين الخارجيين عند حديثهم وتعاملهم مع السياسية التركية. لكن هذا الشعب أظهر أنه الرقم الصعب في المعادلة السياسية، لقد استطاع من خلال نزوله للشوارع وتصديه للانقلاب ودباباته وانتصاره للديمقراطية أن يثبت أنه رقم لا يمكن تجاوزه. لذلك فمن الخطأ الفادح تجاهل دور الشعب التركي عند تحليل ومقاربة المشهد التركي، وإن كان البعض يميل لتحليل المشهد مركزاً فقط على محورية أردوغان. في الحقيقة فإن المشهد التركي يستحق تحليلاً أعمق من هذا التبسيط.
تبدو تركيا اليوم موحدةً أكثر من ذي قبل، على عكس الطريقة التي وصفت فيها تركيا في الإعلام الغربي بعيد الانقلاب. لقد دفعت المحاولة الانقلابية الشعب التركي للتوحد من جديد، فيما أصدر البرلمان التركي بمشاركة جميع أحزابه بياناً أعلن فيه دعمه للحكومة المنتخبة ديمقراطياً. للمرة لأولى التقى الرئيس أردوغان مع رئيسي حزب المعارضة الرئيسين في المجمع الرئاسي، بعد أن كانا يرفضان سابقاً إجابة أي دعوةٍ لزيارة المجمع. ممثلين عن حزب العدالة والتنمية الحاكم شاركوا في مهرجان لحزب الشعب الجمهوري بإسطنبول، الأمر الذي لم يكن ممكن الحدوث منذ أسابيع مضت. ومن المتوقع أن العلاقة البينية بين الأحزاب التركية وبينها وبين الحكومة ستكون أكثر دفئاً في مرحلة ما بعد الانقلاب الذي استهدف الديمقراطية التركية ككل.
تغطية الإعلام الغربي للشأن التركي لا يقدم إلى مزيداً من التحليلات المتحيزة والسطحية التي لن تؤدي إلا إلى تعميق الفهم الخاطئ حول تركيا. إن التفسيرات السطحية وتجاهل علاقة تنظيم غولن بالانقلاب، بل ومحاولة وضع هذه الحقائق ضمن نظريات "المؤامرة" وتسفيه الشارع التركي لا يضرّ فقط في مصداقية الإعلام ودقة تحليلاته بل يؤدي أيضاً إلى الإضرار بقيم الديمقراطية والنزاهة التي فشل المجتمع الغربي بالانتصار لها أثناء الانقلاب. يحتاج الإعلام الغربي لنظرة تأملٍ عميقةٍ في كيفية تغطيته للحدث التركي، والآن هو الوقت المناسب لفعل ذلك.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.