غصةٌ يجدها المرء في روحه لا في حلقه كلما تُوفي داعم، بشكل ما، لـ"الانقلاب" في مصر، وكثرة الوفيات من هؤلاء ليست إلا دليلاً على استمرار ما لا نحب، ولم نكن نرضى لبلدنا، وما كثرة الوفيات إلا دليلٌ على طول عهد الانقلاب وامتداده.
قَصَّر "الجميع" في الحفاظ على وطن ومحاولة ثورة، ولما زاد الظلام.. راح البعض "يستعيض" عن خطة واحدة لقهر الاستبداد، وهي واجبة عليه، ودفع العدو من أبناء جلدتنا عن إضاعة ما "تبقى" من مصر، راح البعض من الصف الثوري، وفيهم "قامات"، وما يُحزنُ مشاركة طرف من علماء الدين بالأمر، أي فيما فيه نهي شديد، وقول صريح بالحرمة، ولكنها النفس البشرية لما تهزم في "المضمار" ومكان اللقاء كله، فيروح البعض يقفون عند الخط الفاصل للخارجين منه شامتين ومهللين ومبدين صنوف الفرحة فيمن خرج من أرض "السباق" ولو ملبياً نداء الحق تعالى، وهل منا من لا يملك إلا تلبية للنداء إذ يجيء روحه؟!
توفى الله الثلاثاء الراحل الدكتور أحمد زويل بالولايات المتحدة الأميركية، وما إن وصل الخبر إلى مصر في ساعة متأخرة، بعد منتصف الليل، حتى شهدنا موجة جديدة من موجات الفرح على مواقع التواصل الاجتماعي، البعض بصورة مباشرة، والبعض الآخر القليل بتعداد المصائب التي وقعت للصف الثائر من "جراء" دعم الراحل للانقلاب.
ولستُ في معرض الدفاع عن الرجل، وقد صار في دار الحق، فيما مثلي بدار الباطل ما يزال، ولكني أترحم عليه، أمر بيني وبيني ربي تعالى، ونقطة فارقة لديّ فيمن يتناولون راحلين بـ"النهش" في الذمة والعرض بل الدين، ولكن في المقابل لم أكن أتمنى له، رحمه الله، أن يكون داعماً لكل الأنظمة الاستبدادية التي مرت في حياته سواء في مصر أو خارجه، والذين يدعمون كل ظالم في حياته، فلكأنما دعموا الظالمين في كل زمان ومكان.
بوضوح، ولا أكتم الله واضحة، لستُ من الواقعين بـ"فخ" الإعجاب لا بالدكتور أحمد زويل، ولا بالراحل محمد حسنين هيكل تحديداً، بمجمل مواقفهم الدنيوية، فكلاهما شهد الانقلاب، وامتد عمره حتى رضي عنه، مع التباين في المواقف، والاختلاف في الدرجات، وكلاهما كان قامة شخصية، أضاع جهداً وذهناً وعقلية مميزة في إلحاق الضرر لا ببني وطنه بل بـ"الأمة" كلها، على أن هذا لا ينفي قدرة آتاها الله إياهما، وتمنيتُ لو وهبها الله للمخلصين ممن تكاد منابع الفكر السياسي والعلمي والإبداعي أن تبتعد عنهم، اللهم إلا من رحم ربي.
على أني من الطرف الآخر أربأ ببعض أتباع الجماعة وغيرها، بكل وضوح، ومناصرين لهم اختصارهم القضية بإبداء الشماتة، بل الفرح الامنتهي فيمنْ مات من داعمي الانقلاب، بل إن إعلامياً أشهر لا يتحرج من الخروج على الملايين بالقول في مثل هذا الموقف:
ـ "زمانك بقيت "حطبة" في نار جهنم!".
أربأ بأناس تيارهم الأعم لما كان في غير موضع "خصومة"، مع أمثال هؤلاء الراحلين، كان يأخذ خطوة من الجميع فيما يخص الموت، وجلاله ومجيء آخر إلى شربه وحوضه، وقد كان من زمرتهم بعض المتعرضين للمتوفين اليوم بالتذكير بكل "نقيصة".
أربأ بهم عن إدخال أمور تنازع على دنيا، ومسار خاص بالدين لم يحسن السادة تناوله، أو الإيغال فيه فحدث ما حدث، أربأ بهم أن يستعيضوا عن الإخفاق بتناول الأموات بالذم، والاستضافة في القول بأنه لولاهم لما وصل بنا الحال إلى ما هو عليه.
الأحاديث الشريفة واضحة جليّة شديدة لكن يال عين القبح لما لا تبدي إلا المساوئ: عن السيدة عائشة، رضي الله عنها: "لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا" رواه البخاري.
حديث آخر: وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا" رواه أحمد والنسائي .
حديث ثالث: عن جندب بن عبد الله البجلي، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حدّث أنَّ رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألّى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك. رواه مسلم.
أين التعقل من الخوض في بشر أخطأ مهما أخطأ، ولكنه صار بين يديّ الملك الديان، وعنده تعالى تلتقي الخصوم، وهو لا يظلم، ولن يظلم أحداً أياً كان، وكيف نرضى لأنفسنا هذا الموقف أن نأكل من لحم ميت صار إلى ربه؟!
ولمن يجتزأون الكلمات:
لم أكن أحب للراحل "أحمد زويل" أن يذهب إلى إسرائيل، ولا أن يحاضر بإحدى جامعاتها، ولا أن يطور صواريخ لقصف المقاومة الفلسطينية الباسلة، التي أسأل الله أن يحشرني مع مخلصيها، كما لم أكن أحب له أن يأخذ جائزة من (دولة) الاحتلال الجائرة الظالمة، ولا أن يدعم نظام حسني مبارك، وأن يهادن الرئيس محمد مرسي، فك الله أسره، ثم ينقلب مع المنقلبين عليه، ويعلن دعمه لقائد الانقلاب..
لم أكن أحب لعقلية فذة مثله أن تسعى فتصبح منغمسة في ترهات الدنيا، ولكني من ناحية أخرى آخذ عبراً لا تنتهي من حياة "زويل"، في ديني قبل دنياي، وإذ أتناول هذا الأمر، أجرد نفسي تماماً عن الأمور الشخصية، لكن الأمر لا يخلو من شجن وأمنيات، بأن لو وهبت هذه الأوطان مثله القدرة على الرؤية أكثر، وأبعدت عنه حب التماهي في مكتسبات الدنيا، المتوارث جيلاً بعد جيل بغير قليل من أبناء وطني، وحين أقول أعرف أن الله أحكم الحاكمين له معيار دقيق في الرحمة كما العذاب، أسأله تعالى السلامة.
حتى الذين عرّفوا الناس في مصر بالراحل "زويل"، قيل أن الراحل "لطفي الخولي" أول مَنْ فعل، ثم تمادى سرب العلمانيين ومن لف لفهم ودار دورانهم، حتى هؤلاء استكثروا عليه حفاوة الشعب المصري البالغة بعد نيّله نوبل الكيمياء في 1999م، وأسموا الأمر "مولد سيدي زويل"، ويبدو أن الرجل الذي صاحب نجاحه مولد، سيصاحب وفاته حتى حين مولد على النقيض، وسبحان من يدبر لعباده.
لا تعطي الدنيا أحداً كل "سؤله"، ولا ما يريد منها، ولم ينل السعادة الكاملة فيها لا "زويل" ولا غيره، وسبحان صاحب الكمال تعالى، يكتشف الراحل "الفيمتو ثانية"، ويملأ الدنيا ويشغل بعلمه ويهديه حتى الأعداء، فيما يصاب بـ"سرطان النخاع الشوكي" الذي ليس له دواء، أسأل الله أن يكون خفف عنه به إن لم يكن غفر!
أما وصيته -رحمه الله- فدع عنك أن يدفن بمصر، فذلك دأب كل محب لبلده على مدار التاريخ، ولكن أنصت بروحك إليه إذ يطلب من الشعب المصري أن يدعو له بالرحمة.. هل في قلبك مجال من بعد لتمني غير هذا له، وهل أمنياتنا تغني عنه من الله شيئاً.
رحم الله الإمام الشعبي، أنه لما دخل على الحجاج بن يوسف الثقفي، والحجاج منْ هو، قيل قتل عشرات الآلاف من المسلمين، وآخرهم التابعي سعيد بن جبير، فقال له "الحجاج":
ـ أوترى لي من توبة؟
فرد الإمام الشعبي قائلاً:
ـ باب التوبة مفتوح لكل مسلم.. أما أنت!
ولم يكمل الرجل..
فما كان من الحجاج إلا أن التفت إلى الناحية الأخرى من سرير الموت قائلاً:
ـ رب إن الناس قد آيسوني منك.. فهل أنت مصدقهم فيّ؟!
فخرج الإمام الشعبي يضرب كفاً بآخر وهو يقول:
ـ أخشى أن ينجو بها الحجاج أو قال "اللئيم".
هؤلاء أناس عرفوا حقيقة الدنيا والوجود والإيمان، فما استخسروا الرحمة على مسلم، والأمر ليس بالأمنيات، أو الترحم، أو الدعاء بنقيضه منا كبشر ملء أحدنا ذنوباً، ولو كانت صغيرة إلا أنها تمنعه من عدم الترحم على بشر طلب منه الترحم عليه، وفي الجملة اعتراف بالخطأ، لو ندري، والرغبة في الاعتذار، والقدوم على ملك الملوك بدعوات الملايين..
وهل دعاؤنا إلا رغبة في نشر الرحمة لجميع الموتى لعلنا ننال بعضاً منها؟!
ورحم الله الشيخ عمر التلمساني لما جاءه نبأ وفاة جمال عبد الناصر، وكان مسجوناً بفعل ظلمه، فما زاد عن أن قال:
ـ رحمه الله!
فلما تعجب المعتقلون معه أضاف:
ـ وهل أغني عنه من الله شيئاً، ولكن لو رحمه الله لرحمني أيضاً.
لا تتعرضوا للملك الحقيقي في ملكوته، وأعظمه الإنسان، وتمنوا بمقدار ضمائركم وعزائمكم لمن فارق أرضكم ودياركم بل عالمكم.
مات أحمد زويل -رحمه الله- فمن كان منكم بلا خطيئة فليقل فيه ما يريد.. ويزيد!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.