يحلو للسياسيين في تونس وصف التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي بالاستثناء التونسي، خصوصاً عند مقارنتها بتجارب الانتقال في بقيّة بلدان الثورات العربية، حيث كان للعنف الكلمة العليا، وآلت فيها الأوضاع إمّا إلى حروب أهليّة، أو إلى حالة سياسيّة أكثر استبداداً. وبصرف النّظر عن الاختلاف الكبير بين السّياقات الذي يُفقد هذه المقارنة كثيراً من وجاهتها، فمن المؤكّد أنّ التجربة التونسيّة قطعت شوطاً كبيراً على طريق بناء النّظام السياسي الديمقراطي والتّأسيس لحياة سياسيّة سليمة، في مناخ من الحريّات واحترام الحقوق، وهو ما يردّه الفاعلون السياسيون الرئيسيّون في تونس إلى ما يعتبرونه نجاحاً، تميّز به التونسيّون عن غيرهم، في إيجاد الطّريقة المثلى للتعاطي مع ماضيهم المتعلّق بحقبة الاستبداد، يبدو القطع بهذا النّجاح حكماً متسرّعاً على خيار ما زال قيد التجربة والاختبار، وما زال إثبات أفضليّته يتطلّب استيفاء جملة من الشّروط، فلا ينبغي للاحتفاء بما تحقّق أن يحجب ما اشتمل عليه مسار الانتقال الذي تبلور خلال المرحلة التأسيسيّة في تونس، والسّياسة التي اعتمدت تجاه قوى النّظام القديم، من نقاط ضعف، وما سوف يعترضه من محطّات دقيقة يسهل عندها الانحراف، لعلّ القرار بشأن قانون المصالحة الاقتصاديّة والماليّة أحد أهمّها على الإطلاق.
أعاد قانون المصالحة الجدل حول العلاقة بماضي الاستبداد والفساد الذّي سبق له أن شغل حيّزاً مهمّاً من الحياة السياسيّة في تونس خلال الفترة التأسيسيّة، وكان قد انطلق مبكّراً منذ قرار القضاء التونسي حلَّ التجمّع الدستوري الديمقراطي خلال الأشهر الأولى بعد سقوط "بن علي"، وتغذّى بظهور حركة نداء تونس بقيادة الباجي قائد السّبسي وأحزاب سياسيّة كثيرة تقودها شخصيّات من رموز النّظام القديم؛ ليبلغ ذروته خلال الأزمة السياسيّة الحادّة التي تلت اغتيال النّائب بالمجلس الوطني التأسيسي محمّد البراهمي، والتي تزامنت أيضاً مع نقاش قانون تحصين الثورة والعزل السّياسي، كان ملفّ العلاقة بالنّظام القديم واحداً من أهمّ الملفّات على طاولة الحوار الوطني سنة 2013، وتوصّلت فيه الطّبقة السياسيّة التونسيّة إلى التّوافق على العدول عن العزل السّياسي، والإدماج الكامل لقوى النّظام القديم في الحياة السياسيّة بالاعتراف لمنتسبيها بحقّهم في العمل السّياسي دون قيد أو استثناء، وإزالة كل العقبات أمامهم، بما فيها التّي اعتمدت خلال انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011.
لا شكّ أنّ هذا الخيار حقّق نجاحاً مهمّاً تمثّل في بناء عمليّة سياسيّة أكثر استقراراً، مكّنت من دمج جميع الحساسيّات والتّناقضات ضمن مسار شامل تحكمه قاعدة موحّدة لإدارة الصّراع السّياسي، فلقد كان من المهمّ احتواء الفعل السياسي الذي مارسته قوى النّظام القديم بإخراجه من دائرة المعارضة لمسار الانتقال في ذاته، إلى فعل من داخله يلتزم بشروطه وقواعده، وقد ساهم ذلك إلى حدّ بعيد في تثبيت الديمقراطيّة التونسيّة الفتيّة وتأمين الانتقال، وكذلك في تحقيق السّلم الأهلي وتفادي الاضطرابات السّياسيّة الحادّة والانزلاق نحو العنف الذي يمكن أن يَنتج عن ضعف الأدوات السياسيّة لإدارة الاختلاف، لكن، وفضلاً عن ضرورة تنسيب هذا النّجاح، والانتباه لحدوده بالنّظر إلى التركيبة السياسيّة النّاتجة عن انتخابات 2014، وضعف انخراط التّونسيّين في العمليّة السّياسيّة، والسّؤال القائم حول مدى قدرة مؤسّسات سياسيّة تطغى عليها عقول الماضي على إحداث التغيير، فإنّ تعاطي الطّبقة السياسية التونسية مع ملفّ العدالة الانتقاليّة، خصوصاً بعد طرح قانون المصالحة الاقتصاديّة والماليّة، يضع الاستثناء التونسي أمام امتحان جدي يتعلّق بقابليّته للتّجسيد وفرصه في الاستمرار.
انبنى نموذج الانتقال التونسيّ، كما تصوّره أنصاره من المعارضة التاريخيّة للنّظام القديم، على مرتكزين أساسين:
– التمييز بين المصالحة السّياسيّة مع المنتمين للنظام القديم من جهة، وبين مسؤوليّتهم أمام القانون على ما اقترفوه من انتهاكات من جهة أخرى، وبالتالي، الاعتراف لهم بحقوقهم السياسية كاملة، مع ترك مهمّة التعاطي مع ملفّات الماضي للقضاء وللهيئة الدّستوريّة المستقلّة المكلّفة بإنفاذ قانون العدالة الانتقاليّة، هيئة الحقيقة والكرامة، وفق مسار يضمن كشف الحقيقة وعدم الإفلات من العقاب، وينتهي بالمصالحة، سواء تعلّق الأمر بقضايا الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان.
– وضع شرط لهذه المصالحة السياسيّة، هو الالتزام بالدّستور وبقيم الديمقراطية التي قامت عليها الحياة السياسية بعد الثورة، والقطع مع ممارسات النّظام القديم والقواعد التي قام عليها.
ميّز هذا المعنى خطاب الدّاعمين لهذا التوجّه، وقد تضمّنه، مثلا، مقال لراشد الغنوشي، زعيم حركة النّهضة، نُشر على موقع الجزيرة بعنوان "أفق مفتوح نحو مصالحة وطنية تاريخيّة" جاء فيه: "فكل من دخل تحت خيمة الدستور وحكم باسمه فهو من أهل النظام الجديد أياً كان علوّ موقعه في النظام القديم، ومن ثبت عليه تورط في نهب أو قمع فأمره إلى العدالة الانتقالية وأجهزة القضاء".
في ضوء ما تقدم، يمكن أن نستنتج أنّ تجنُّب الوقوع في الفوضى التي انتهت إليها تجارب الانتقال الأخرى ليس لوحده معياراً كافياً للقطع بنجاح النموذج التونسي في الانتقال، إذ يُشترط أيضاً لهذا النّجاح، التمكّن من إدماج قوى النّظام القديم في النّظام الجديد، دون أن يترتب عن ذلك عودةٌ لقواعد النّظام القديم وممارساته، ولا مسٌّ من قيمة العدالة بالتفريط في حقوق التونسيّين التي انتهكت نتيجةً للقمع أو للفساد، وهو ما يبدو أن قانون المصالحة في تناقض تامّ معه.
يتمثّل هذا القانون المعروض على أنظار مجلس النوّاب بمبادرة من رئيس الجمهوريّة المحسوب على النّظام القديم، في جملة من الإجراءات الخاصة التي تتوقفّ بموجبها الملاحقات القضائيّة أو تنفيذ الأحكام الصّادرة في حقّ المتورّطين في قضايا الفساد، ويكون ذلك بموجب عفو، أو آليّة محدّدة للصّلح، كما يسحب هذا القانون صلاحيّة النّظر في قضايا الفساد من دائرة اختصاص هيئة الحقيقة والكرامة، ويشكّل لجنة للغرض، تعمل تحت إشراف رئاسة الحكومة.
من الواضح أنّ هذا القانون يخلق مساراً بديلاً عن مسار العدالة الانتقاليّة في ما يتعلق بقضايا الفساد، ويقفز على مبدئي كشف الحقيقة والمحاسبة، بالمرور مباشرة للعفو، أو لمصالحة تخضع لتقدير السّلطة التنفيذيّة دون غيرها، وهو ما يمكن اعتباره تقنيناً للإفلات من العقاب، وتساهلاً مع الفساد بتسوية أوضاع المتورّطين فيه، وضرباً لقيمة العدالة، وفي الحقيقة، فإنّ هذه المبادرة مثّلت ترجمة مباشرة لموقف حركة نداء تونس ومؤسّسها الباجي قائد السبسي خلال الانتخابات الماضية وقبلها من منظومة العدالة الانتقاليّة، رغم أنّها كانت في حزمة التوافقات ذاتها التي تضمنّت التراجع عن قانون العزل السياسي، لم يتأخر حزب نداء تونس في التراجع عن التزاماته بهذا الصّدد؛ ليصبح الرّفض المُعلن لمنظومة العدالة الانتقاليّة المتّفق عليها أحد أهمّ عناصر خطابه السّياسي الذي كان يصفها بـ"الانتقاميّة"، ويطعن في أهليّة هيئة الحقيقة والكرامة وفي ذمّة أعضائها ورئيستها بشكل خاصّ.
من جهة أخرى، وخلافاً لما سوّقت له النّخب التونسية من نفي للتّلازم بين عودة القوى والشخصيات المرتبطة بالنّظام القديم للحياة السّياسيّة، وبين عودة القواعد التي كانت تحكمه، فإنّ قانون المصالحة يعيد إنتاج واحدة من أبرز سمات ذلك النّظام، وهي رعاية السلطة السياسيّةِ للفساد. صحيح أنّ الثورة التونسيّة لم تتمكّن من تفكيك منظومة الفساد في ظلّ استمرار ضعف الأدوات والإرادة السياسية، لكنّها تمكّنت، على الأقلّ، من إرباك العلاقة القديمة بين السّلطة السياسيّة وهذه المنظومة، التّي وفّرت، بموجبها، السلطةُ الغطاءَ لانتشار الفساد وحوّلت أجهزة الدّولة إلى أدوات في خدمته.
في المقابل، وعلاوة على تسوية ملفّات الفاسدين دون محاسبة، فإنّ العفو الذي يسنّه مشروع قانون المصالحة عن موظّفي الدّولة المورّطين في الفساد، سوف يثبّت روافده في أجهزة الدّولة، ويحرّر المنتمين إليها من القيود التي فُرضت عليهم بفعل الثورة وتَعرُّضهم للمساءلة، وبالتّالي سوف يسهّل إعادة تركيز شبكات الفساد وتفعيلَها، بالإضافة إلى هذا، فإنّ اعتماد هذا القانون سوف ينقل رعاية الفساد من مستوى الممارسة السياسيّة الفاسدة، إلى مستوى إفساد المنظومة القانونيّة ذاتها وتطويعها في خدمة الفاسدين، وهو ما يضع السّلطة التشريعيّة أمام خطر الانحراف بدورها من الدّفاع عن الصّالح العامّ، إلى رعاية مصالح الفئة القليلة التي استفادت من النّظام القديم على حساب عموم التّونسيّين.
بناء على ما سبق، يتّضح أنّ قانون المصالحة الاقتصاديّة والماليّة يمسّ من المرتكزات التي انبنى عليها تصوّر النّخب السياسيّة للنّموذج التونسيّ، باعتباره مُتنافياً مع منظومة العدالة الانتقاليّة وترميماً للعلاقة القديمة بين الفساد ومؤسسات الحكم. يدفع هذا للتساؤل حول مدى واقعيّة الحديث عن استثناء تونسيّ، وما إذا كان نموذجاً للنّجاح تمكّن حقّاً من القطع مع الممارسات القديمة وتغيير طبيعة العلاقات التي كانت تحكم المجال السياسي في الماضي، دون عزلٍ لعائلةٍ سياسيّة تحتفظ بحقّها في الوجود، أم أنّه كان، كما يراه منتقدوه، فشلاً أقل سوءاً، تجنّب العنف لكنّه يبقى شكلاً من أشكال الردّة، مثّلت فيه عودة قوى النّظام القديم للحياة السياسيّة مقدّمة للهيمنة عليها، ثمّ الانحراف بها، وتحويل الدّيمقراطية التونسية إلى أداة لتسوية أوضاعهم وطمس جرائمهم واستعادة امتيازاتهم التي انتزعتها منهم الثّورة.
وفّرت عوامل مختلفة المناخ الملائم لطرح قانون المصالحة الاقتصاديّة والماليّة، منها حالة التراخي في التعاطي مع ملفّات الماضي، وغياب الإرادة السياسيّة الكافية والأدوات الضروريّة لتفكيك منظومة الفساد منذ 2011، والإخفاق على المستوى الاقتصادي الذي يتمّ توظيفه للرّبط بين تجاوز الأزمة والمصادقة على هذا القانون، وكذلك البطء الواضح في أداء منظومة العدالة الانتقاليّة وضعف القضاء التونسي، لكنّ هذا القانون مثّل أيضاً فرصة انكشفت فيها أمام التونسيّين طبيعة الدّوافع التي تحكم مشاركة قوى النّظام القديم في الحياة السياسيّة، ودليلاً جديداً على ضعف انسجامها مع قيم العدالة والدّيمقراطيّة، وبقطع النّظر عن أفضليّة خيارات أخرى في التعاطي مع الماضي، إن وُجدت أصلاً، فإنّ الزمن لا يعود إلى الوراء، لكنّ هذا لا يعني أن إمكانيّة تجسيد الاستثناء التونسي لم تعد ممكنة، رغم ما فيه من ضعف، وما يتهدّده من مخاطر، يبقى ذلك مرتبطاً بمدى تحلّي بقيّة الفاعلين السّياسيّين في تونس بالمسؤوليّة المطلوبة، ودرجة جديّتهم في الحفاظ على نموذج الانتقال التونسي ومنع الانحرافات التي يمكن أن يدفع باتجاهها القادمون من الماضي إذا ما تُرك لهم الأمر، ويبقى الموقف من قانون المصالحة اختباراً جديّاً له ما بعده في الحكم على الاستثناء التونسي.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.