ماذا تبقى من مقولة "نهاية التّاريخ" التي بشّر بها المفكر الأميركي "فرانسيس فوكاياما" أواخر القرن الماضي، في مقالته المنشورة في المجلة الأميركية المرموقة "فورين أفيرز"، عقب انتهاء الحرب الباردة في ديسمبر/كانون الأول 1991، مؤذنةً بانتقال العالم من حكم ثنائي القطبية، أميركا الرّأسمالية/ الدّيمقراطية من جهة، والاتحاد السوفيتي الشّيوعي/ الاشتراكي من جهة أخرى، إلى عالم تتحكم فيه الولايات المتحدة الأميركية، فهي القوّة العالمية العظمى الوحيدة المتبقية في عالم اليوم، التي يُطلبُ ودّها ورضاها، ويُخشى غضبها وسخطها.. ماذا تبقى من مقولة "النِّهاية"، والعالم تتنازعه أجواء الحرب والخوف في كل أنحائه؟
تهافت نهاية التّاريخ:
ترى الأطروحة أنّ انتصار أميركا في صراعها مع الاتحاد السوفيتي هو دليلٌ قويّْ على أن نظامها السّياسي والاقتصادي هو المفضل للبشرية، وبه تتحقق الرّفاهية للشعوب، ويتحقّق السّلام العالمي للبشرية جمعاء، ومن أراد أن ينعم بالرّفاهية والسّلام في عالم ما بعد التّاريخ، عليه أن يسارع إلى أخذ تأشيرة الدخول قبل نفادها، وإلا فإنّه من عالم ما قبل النِّهاية، إذ تطبّق عليه قوانينه وشرائعه، بمعنى إما أن تُسلّم بقيادة أميركا وتفوقها وأحقية نظامها السّياسي والاقتصادي في تسيير شؤون العالم، وإما أنّك من عالم الأعداء تريد إفساد حياة الإنسانية التي ارتضت بالأمركة منهاجاً، وبالرجل الأميركي، خاتم البشر، قائداً ومعلماً، ذلك أنّ العالم الجديد لا مكان فيه للمعارضين والمخالفين، فهناك قطارٌ واحدٌ، وخطّ سير واحد، ونقطةُ وصول واحدة.
بالنّظر إلى عالم اليوم، نرى أن التّاريخ قد عاد من جديد، وأن النِّهاية لم تكن وردية وسعيدة، كما صوّرت لنا من قبل، حيث الحرية والمساواة والتّقدم والسّلام العالمي، بل الذي نراه هو العكس أي عالم الخوف والحرب، أو بعبارة أخرى، نجد أنّ العالم الذي تنبّأ به "صموئيل هنتنغتون" في منتصف التسعينات من القرن الماضي هو الذي تحقق، والذي رأى فيه أن الصِّراع سيبقى من سِمات هذه المرحلة الجديدة، وأنّ الذي يتغير هو دافع الصِّراع، إذْ ينتقل من الأيديولوجيا كمحرك له إلى الدين والثّقافة، بمعنى آخر أنّ الصراعَ القادم هو صراع الحضارات يكون للدين والثّقافة حضورٌ قويٌّ.
تأتي أحداث 11 سبتمبر/أيلول لتكتب نهايةً لهذه الأطروحة، وتبين مدى هشاشتها، وتهافت قائلها، وتكتب عودةً لتّاريخٍ أشدّ عنفاً وقساوة، وكان لـ"أسامة بن لادن" الفضل في عودته من جديد، عندما أقرّ في خطبه وصيحاته بأنّه من يقف وراء الهجمات، التي استهدفت مركزي القوّة والمال في أميركا، البنتاغون ومركز التّجارة العالمي، فانقسم العالم إلى فسطاطين، فسطاط الخير أميركا ومَن والاها، وفسطاط الشّر لمن وقف ضدها، لكن المؤكد من كل ذلك أنّ عودة التّاريخ هي بمثابة انفراط لهذا النِّظام، وتفكّك لأوصاله وأركانه، نتيجة تزايد قوّة معارضته ورفضه.
عودة التّاريخ:
يعيش العالم هذه الأيام فترة حرجة في حياته؛ نظراً إلى الأحداث الجارية في مختلف أنحائه وأرجائه، من بلجيكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا في أوروبا، مروراً بالشّرق الأوسط وأحداثه ومفاجآته، وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية، العنوان البارز الذي يسوّق في كل ما يجري هو التّهديد الذي يمثّله الإرهاب (الإسلامي) على البشرية، فتهديده لم يبق محصوراً في منطقة الشّرق الأوسط، كما كان من قبل، بل امتدّ إلى العالم كلّه، وها هي أوروبا تتلقى ضربات قوية وموجعة في عواصمها الكبرى في ظرف قصير جدّاً، قد تكون فرنسا هي المستهدف الأكبر، بالنّظر إلى قوّة الهجمات، وحصيلة القتلى فيها، إلا أنّ الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه الإرهاب ليس قوّة العملية، ولا عدد القتلى، بل هدفه بثّ الرّعب وإشاعة الخوف في نفوس النّاس، إذْ يؤدي ذلك في الأخير إلى تعديل في القوانين وتغييرها، وإلى إعادة تفعيل التشريعات الاستثنائية والطّارئة، بالرّغم من أن تطبيق مثل هذه التشريعات في حدّ ذاتها مؤشر على اللاأمن.
عودة دولة الخوف في الغرب هي مصادرة للحريات، وانقضاض على ما تبقى من الدّيمقراطية، التي اُختزلت في صناديق الاقتراع فقط، وأصبح دور الشّعب في الحياة السياسية يكاد لا يُرى، بالإضافة إلى التنازل عن دولة الرّفاه، وبالتّالي، فالهدف النِّهائي من صناعة الخوف في العالم قد يكون سحب الرّصيد المتبقي من الديمقراطية حتّى يبقى الشّعبُ سجينَ البحث عن الأمن، على الرّغم من أنّ الأمن من واجبات الدولة تجاه مواطنيها، كما يحدد ذلك العقد المبرم بين الطرفين (الدولة/ المواطن)، وبذلك يتنازل المواطن عن حقوقه المهضومة، وعن أشواقه المطلوبة، من أجل أمنه والحفاظ على حياته، بعبارة أخرى، نكوص الدولة من دولة الحقوق إلى دولة الأمن.
قد يكون السبب الرئيسي وراء ذلك راجعاً إلى الوعي الذي بدأ يتشكّل لدى المواطن الغربي في الأعوام الأخيرة بعيداً عن السّياق المرسوم له من خلال القصف الإعلامي، الذي كان يُبشِّرُ بالفردوس الموعود على الأرض، حيث الخلاص الفردي، والأمن الاجتماعي، والرّفاه الإنساني، لكن للأسف، لم يتحقّق الفردوس الأرضي هذا، بل الذي تحقّق على أرض الواقع هو مزيدٌ من المآسي والعذابات، ومع مرور الأيام، أدرك الإنسان الغربي التّضحيات التي يقدّمها في سبيل بقاء هذا النِّظام وتفوّقه، مما تولّدت لديه الرغبة في التّغيير من خلال مقاومة الوضع بالاحتجاج والرّفض.. ذلك أن المهمّة التّغييرية لا تقتصر على فهم العالم فحسب، بل تحتاج إلى إخراج الفهم من دائرة التجريد إلى دائرة الفعل.
عودة الوعي:
لقد ظهرت في الغرب مؤخّراً العديد من الحركات الاحتجاجية المناهضة للنِّظام السياسي والاقتصادي الغربي، ولعلّ أشهرها على الإطلاق حركة "احتلوا وول ستريت"، التي ظهرت في مدينة نيويورك الأميركية في 17 سبتمبر 2011، ثم توسّعت لتشمل الولايات المتحدة الأميركية كلّها، قبل أن تتحوّل إلى حركة عالمية في 15 أكتوبر/تشرين الأول، ومن أهم أسباب ظهورها ما يلي:
– جشع الرأسماليين وسلطتهم في الدولة.
– تفشّي الأزمة الاقتصادية، وبدء خروجها عن السيطرة.
– اختلاط المال بالسلطة، وتمويل الشّركات الكبرى للحملات الانتخابية.
ولقد كان هدفها الرئيسي، كما تقول التقارير الإعلامية، إسقاط النِّظام الرّأسمالي، والعمل على إرساء نظام عالمي جديد، يعترف بإنسانية الإنسان وقداسته، تبدو المهمّة صعبة، ولكنّ مسيرة ألف ميل تبدأ بخطوة، وبداية المسيرة تكون بإعلاء الصّوت الرّافض لهذا النِّظام عن طريق المظاهرات والاعتصامات والاشتباك السّلمي.
بناءً على ذلك، فإن ظهور مثل هذه الحركات الاحتجاجية هو نتاج وعي وفهم للعالم، وكذا، كرد فعل على الأزمات التي تظهر في بنية النِّظام الغربي، وتشكك في جدارته وكفاءته، ولأنّ استمرار مثل هذا الوعي من شأنه تقويض هذا النِّظام، وهدم أساطيره، فعلى الغرب أن يتّخذ الوسائل والطرق التي تعيد الهيبة لهذا النِّظام حتّى، ولو أدّى إلى إعادة النّظر في كثير من أسسه وأركانه، والتّضحية ببعض مكاسبه وإنجازاته، وبما أنّه لا يمكن إخضاع الغربي، وإرجاعه إلى بيت الطاعة مرة أخرى، وهو على هذه الدرجة الكبيرة من الوعي والفهم، كان لا بد من إعادة صناعة الخوف، بإشاعته، وإيجـاد شخوصه (داعش، القاعدة…) وتركه يستفحل، بل ومساعدته على الانتشار من خلال سنِّ القوانين الطارئة التي تزيد من خوف المواطن وفزعه، فيصبح أقصى ما يطلبه المواطن ويتمنّاه هو توفير الأمن، وقد يكون هذا ما قصده الفيلسوف الإيطالي "جورجيو أغامبين" في مقالته النّقدية المنشورة في جريدة "لوموند" الفرنسية عندما حلّل العلاقة الجدلية بين الخوف والدولة المعاصرة، واعتبر هذه الأخيرة في حاجة ماسّة إلى الخوف حتى ترسي مشروعيتها على أسس متينة وأركان قوية؛ إذْ قال: "إذا كانت الدولة تحتاج إلى الخوف لترسي مشروعيتها على ركن قوي، عليها في هذه الحال (إنتاج) الرّعب وتركه ينتشر من غير معوّق"، وللإشارة هنا، فإن الدولة تمثّل العقل السياسي في هيكلة النِّظام العالمي مضافاً إليها العقل الاقتصادي.
قد يكون المفكّر الأميركي "نعوم تشومسكي" على حق، عندما ربط في مقالاته بين هذه الحركات الاحتجاجية في الغرب، والرّبيع العربي في منطقة الشّرق الأوسط، إذْ اعتبرهما شكلاً من أشكال النِّضال والمقاومة ضدّ النِّظام العالمي، ووعياً بمدى خطره على مستقبل الإنسانية ووجودها، وإن كانت، أي الحركة الاحتجاجية، في الغرب تميل أكثر إلى مقاومة النِّظام المالي والاقتصادي، فإن الرّبيع العربي هو رفضٌ للنِّظام السّياسي الدّيكتاتوري، ودعوة إلى إقامة دولة القانون والحريات، لذا كانت طريقة إخماد الحركات الاحتجاجية في الغرب أو الربيع العربي واحدة، هناك ببثّ الرّعب وإشاعة الخوف من الآخر، العربي والإسلامي (المتطرّف)، وهنا بإشاعة الفوضى، وإشعال نيران الحروب، والفتن الطّائفية.
ومن ثمّ، فإن إشاعة الخوف، وإشعال الحروب، بإثارة الفتن الطّائفية والعرقية، بمثابة ردّ فعل قويّ من طرف النِّظام الغربي، العاجز عن حلّ الأزمات والفاشل في احتواء الآخر، على الوعي الذي بدأ يتشكّل وينمو، وعلى المقاومات التي بدأت تظهر هنا وهناك معارضةً له، ورافضةً لكثير من سياساته.
هذا هو التّفسيرُ الوحيدُ لحالة الخوف والحرب، التي يعيشها العالم اليوم، تحت ذريعة محاربة الإرهاب والتطرّف، ذلك أنّ افتعال الأزمات واختلاق المشكلات حقنٌ ضروريةٌ لحياة هذا النِّظام واستمراره، حتّى ولو أدّى ذلك إلى إبادة الجنس البشري، والانتحار الكوني.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.