" لقد تطرَّف بسرعة! "
لم يجد وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف، سوى هذه العبارة لتفسير كيفية قيام شخص كان حتى أيام خلت يواظب على حضور دروس تعلم رقصة السالسا، وكان يشرب الكحول ولم يدخل مسجداً في حياته، بهجوم دامٍ ومروع لصالح تنظيم يصنَّف بأنه الأكثر تطرفاً داخل الدائرة الإسلامية، وذلك عندما حول شاحنته إلى آلة قتل وسط مدينة نيس الفرنسية، فقتل خلال دقائق أكثر من ثمانين شخصاً.
هل حقاً احتاج محمد بوهلال لأيام فقط، حتى يتشرب فكر السلفية الجهادية وأدبيات تنظيم الدولة، ويقتنع أن تمزيق عشرات المدنيين -وبينهم نساء وأطفال بل وحتى مسلمون- هو الطريق الأقصر إلى الجنة؟!
أم أن ما قام به كان مجرد انتحار عنيف قاده إليه اكتئاب حاد واضطراب نفسي وإدمان على الكحول، لكنه وجد في وصفة تنظيم الدولة فعالية أكبر من مجرد طلقة في الرأس أو جرعة زائدة في غرفة مظلمة.
تبقى الإجابة معلقة.. فالرجل انتقل إلى الدار الآخرة وسره معه، لكن واقعة نيس الدامية تضيف مزيداً من الجدل إلى الجدل المثار أصلاً حول البيئة والظروف التي تنتج "جنود الخليفة" أو الدواعش كما يحلو للبعض تسميتهم.
فمنذ ظهور تنظيم الدولة وصعوده المباغت في المنطقة.. بدأت الأسئلة تتوارد.. حول المقدمات التي تقود إنساناً ما لكي ينتهي به الأمر مقاتلاً داخل تنظيم يرى دولة الإسلام المنشودة على أسنة السكاكين التي تقطر منها الدماء؟ ما هي المدارس أو المناهج أو المشارب الفكرية التي تجعل شباباً يافعين يتحولون بين ليلة وضحاها إلى قنابل بشرية ترى بأن الطريق الأمثل لرضى الله والفوز بجنته يمر عبر الأحزمة الناسفة؟
ما هي العوامل التي تجعل إنساناً ما قابلاً "للدعشنة" وآخر محصناً أمامها وهل هؤلاء ضحية تراث قاتم أم حداثة بائسة، وهل التطرف والتشدد بضاعة "إسلامية" أو سنّية على وجه التحديد؟
بدا لافتاً أن ثمة من حاولوا الإجابة على مثل هذه التساؤلات -لا سيما من المحسوبين على تيارات ليبرالية وعلمانية ويسارية- بأنهم وقعوا في فخ النمطية وأسقطوا أحكامهم وصورهم الذهنية المسبقة والبائسة عن الإسلاميين وعن الإسلام نفسه على هذا الواقع الجديد، وحاولوا استثمار أفعال تنظيم الدولة في تصفية حساباتهم وعقدهم التاريخية مع الإسلام وأهله.
تارة عبر تصوير "الدعشنة" على أنها التطور الطبيعي "للتدين"، وتارة أخرى عبر إطلاق دعوات تطالب بإغلاق مدارس تحفيظ القرآن الكريم، ووصفها بأنها محضن لتفريخ الدواعش! كما حصل في تونس والأردن.
في حين يتجاهل هؤلاء مع سبق الإصرار، حقيقة أن بعض منفذي عمليات تنظيم الدولة لا يتقنون اللغة العربية أساساً، وبعضهم قد يتلعثم حتى في قراءة الفاتحة،
وبأن تنظيم الدولة بالأساس يُكَفِّر جماعات الإسلام السياسي وينكر عليهم الاحتكام للأنظمة "الكافرة" وقبول بدعة الديمقراطية، بل إن مقاتلين بالتنظيم يعتبرون أن قتال هذه الجماعات "المرتدة" أولى من قتال "الكفار الأصليين".
كما يندر وجود أفراد بين صفوف تنظيم الدولة ممن انتموا في فترة سابقة من حياتهم إلى حركات إسلامية كالإخوان المسلمين، بينما يسهل عليك أن تجد بين صفوفهم كثيرين ممن كانوا يعيشون حياة أبعد ما تكون عن الدين قبل الانخراط "بجيش الخليفة".
آخرون سعوا لتصوير تنظيم الدولة وكأنه أيضاً التطور الطبيعي للفكر السلفي أو بأن داعش هو الابن المتوحش للمدرسة السلفية التقليدية، وتحديداً تلك التي يحبذون وصفها "بالوهابية".
لكن ورغم أن هناك شيئاً من الصحة في هذا التفسير؛ لكون تنظيم الدولة يستند في أدبياته على ما بات يعرف بالسلفية الجهادية، إلا أن هذا التفسير سرعان ما يصطدم بحقائق لافتة، فعدد الذين التحقوا بتنظيم الدولة في سوريا والعراق من حي مولينبيك الصغير غرب العاصمة البلجيكية بروكسل، هو أكبر بكثير من الذين انضموا للتنظيم قادمين من نجد -مسقط رأس الإمام محمد بن عبدالوهاب- وأن أعداد التونسيين مثلاً في التنظيم أضعاف أعداد السعوديين، وأن القادمين من مدارس وجامعات تعتمد الفكر العلماني أو اللاديني هم أضعاف خريجي المدارس ذات المناهج السلفية أو حتى المناهج الدينية التقليدية؟
وتجدر الإشارة هنا إلى الدراسة التي أعدها باحثان أميركيان واعتبرا فيها بأن الفرنكوفونية وقيمها العلمانية، سبب رئيس للتطرف الديني، حيث لفت الباحثان وليام ماكنتس وكريستوفر ميسيرول من معهد بروكينغز في مقالة لهما بعنوان "الرابط الفرنسي" نُشرت في مجلة "فورين أفيرز"، إلى أنه رغم أن "الأمر يبدو غريباً، فإن أربعاً من الدول الخمس التي سجلت أكبر نسبة للتطرف في العالم هي فرنكوفونية".
نعود إلى السؤال الأساسي من أين يخرج مقاتلو التنظيم؟
وقبل الإجابة أحب أن أقدم بعض أفكاري حول التطرف
* التطرف ليس أمراً طارئاً على الأمم والجماعات وهو موجود في كل الأديان والفرق والمذاهب -هناك بوذيون متطرفون- وهناك متطرفون حتى بين مشجعي الفرق الكروية، إذ إننا نشهد حتى اليوم وفاة أناس بسبب الركل والضرب على أبواب المدرجات.
* المتطرفون في الغالب فئة منعزلة ولا ترتفع شعبيتهم إلا في المراحل المضطربة أو المشوهة من حياة الشعوب
* التطرف يتحول إلى أزمة مرعبة إذا انحاز له العقل الجمعي داخل الأمم والمذاهب والطوائف لدرجة يصبح المتطرفون -لا سيما من يحضون منهم على استباحة دماء الآخرين وأعراضهم وكرامتهم- نجوماً في البيئات المحتضنة لهم- ولا يمكن المقارنة بين متطرف معزول ومتطرف يعبر عن عقل جمعي لطائفته.
* التطرف اليوم وكما غيره من المصطلحات أمر نسبي -فما يراه البعض تطرفاً قد يراه آخرون تمسكاً بديهياً بعقيدتهم ومبادئهم، وفي المشهد الحالي كثيراً ما يتم وضع كلمة التطرف والمتطرفين في سياقات انتقائية لا تعبر عن الواقع الحقيقي، فغالبية من يوصفون بالمتطرفين في العالم العربي والإسلامي اليوم هم إسلاميون معتدلون ووسطيون في حياتهم وفي خياراتهم الفقهية.
* في الدول الديمقراطية والغربية -وحتى لدى الدولة العبرية- يعيش المتطرفون بكل أريحية داخل مجتمعاتهم، بل وتتم مغازلتهم من القوى السياسية المختلفة لكسب أصواتهم في الانتخابات.
* في العالم العربي تستخدم الأنظمة الاستبدادية والقمعية تهمة التطرف شماعة لتحارب بها خصومها المطالبين بالإصلاح، وكثيراً ما حولت الأساليب القمعية والوحشية لهذه الأنظمة شباناً أبرياء ومساكين، إلى مقاتلين يؤمنون بالتغيير عبر العنف.
نعود للسؤال الرئيسي مجدداً.. من أين يأتي مقاتلو تنظيم الدولة .. برأيي فإن غالبيتهم ينتمون إلى أربع مجموعات رئيسية..
الأولى.. تلاميذ السلفية الجهادية.. أي أولئك الذين اختاروا بملء إرادتهم -فكراً وقولاً وفعلاً- الانتماء للمدرسة السلفية الجهادية وهي التي ظهرت بالسعودية منتصف التسعينيات، وكانت أولى مطالبها إخراج القوات الأجنبية من جزيرة العرب، ورغم أنها تستند في رؤيتها الشرعية والفقهية إلى ذات المصادر التي تعتمدها المدرسة السلفية التقليدية، إلا أنها اختطت طريقاً خاصاً بها لا سيما بخصوص الجهاد ونظام الحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبدا لافتاً تأثرها بفترة مبكرة بأفكار الجماعة الإسلامية بمصر، والتي تمخضت لاحقاً عن ظهور تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، أي أن هؤلاء التلاميذ وبعد تشربهم للفكر السلفي الجهادي، قرروا الانتقال إلى مرحلة التطبيق العملي ووجدوا في الانتماء لتنظيم الدولة مرادهم.
الثانية.. الباحثون عن مظلة للانتقام!
أي أولئك الذين مثّلَ لهم التنظيم الوصفة الأسرع والأكثر فعالية للانتقام والثأر من أعدائهم أو خصومهم، وممن جذبتهم عملياته الدموية، فرأوا فيها الحل الأمثل والملاذ لما يواجهونه من ظلم وقمع وحشي أو حتى إقصاء وتهميش، كما حصل في سيناء مثلاً التي لم تكن يوماً حاضنة للسلفية الجهادية، لكن التنظيم اليوم أصبح قِبلة كل من يرغب بالانتقام من جنود السيسي، وللرد على حملاتهم الوحشية وعمليات التهجير المتواصلة ضد أهالي سيناء، هؤلاء لو كانت حياتهم تسير كما يريدون لما فكروا يوماً بطرق باب التنظيم.
في العراق أيضاً بات التنظيم مقصد كل سُنيّ راغب بالانتقام من الانتهاكات الوحشية ومن الظلم والقتل والتهجير التي تمارسها عليه المليشيات الطائفية المتغولة على الدولة والمهيمنة على مؤسساتها الأمنية والعسكرية، لا سيما في ظل فشل سُنّة العملية السياسية في الدفاع عن مصالح السنّة وتحقيق أبسط حقوقهم بالعيش الآمن والكريم على أرضهم، حيث باتت الخيارات ضيقة جداً أمام السنة، فإما الهجرة أو أن تقبل كل أنواع الظلم والإهانة والرضى بحكم المليشيات أو أن يلتحق بتنظيم الدولة.
الثالثة.. ضحايا الهويات القاتلة
أي أولئك الذين ولدوا وعاشوا في الغرب ودرسوا في مدارسه وتعلموا لغته، لكنهم فشوا في الاندماج بمجتمعاتهم، فعاشوا على هوامشها وأطرافها وقد يزيد الأمر سوءاً تعرضهم لممارسات عنصرية أو لحملات كراهية، أو انزلاقهم إلى عالم الجريمة وإدمان الكحول وتعاطي المخدرات.. فتعاظمت لديهم أزمة الهوية .. فقرروا وفي لحظة فاصلة من حياتهم الانسلاخ التام من واقعهم.. ووجدوا في تنظيم الدولة "فرصة للتطهر من الغرب "الكافر" وبأن الانضمام للتنظيم كان الحبل الذي بحثوا عنه للخروج من "المستنقع الدنس" الذي غرقوا فيه..
فقرروا القفز من النقيض إلى النقيض.. وبعضهم حتى قبل أن يبدأ بحفظ عدد الركعات لكل صلاة أصبح جاهزاً على الصعيد النفسي لتنفيذ أي مهمة يكلفه بها "خليفة المسلمين".
الرابعة.. المجندون أو المخترقون
أي الأشخاص الذين يتم إرسالهم من قبل أجهزة الأمن العربية والإقليمية والغربية حتى يتغلغلوا داخل التنظيم -مستفيدين من الهيكلية الرخوة التي يقوم عليها تنظيم الدولة، حيث يكفي أن تعلن التوبة، وأن تنتظم في دورة شرعية قصيرة، ومن ثم تبايع "الخليفة" حتى تصبح أحد جنوده. حيث يتم لاحقاً استخدام هؤلاء المجندين لخدمة مصالح تلك الأجهزة وتجيير التنظيم ليصبح ألعوبة في أيديهم -لدرجة يمكن القول بأن بعض فروع التنظيم بالساحات العربية باتت تدار بالكامل من أولئك المجندين وأصبحت كالحربة في أيدي الأنظمة يطعنون بها خصومهم أو حتى حلفاءهم لدرجة وصلت بأبي قتادة -وهو أحد أبرز منظري السلفية الجهادية في العالم- لكتابة بحث بعنوان "خلافة للإيجار" على غرار كتاب باتريك سيل الشهير "بندقية للإيجار"، والذي كان يتحدث عن مجموعة أبو نضال الفلسطينية.
خاتمة
برأيي فإن التدين الحقيقي لم يكن يوماً السبب الأساسي للتطرف، بل على العكس فإن المتدين الحقيقي الواعي لأحكام دينه ومقاصد شريعة رب العباد، قد يكون الأكثر حصانة ضد الانزلاق نحو التطرف، والأكثر انحيازاً للحوار ومواجهة الحجة بالحجة.
وإن القمع والظلم والاستبداد هو الذي يولد التطرف، ويحول الناس إلى وحوش، وأن الناس في غالبيتها تولد بفطرة سليمة تحب التسامح والتعايش، لكن عندما يفرض عليها واقعٌ مشوه فإنها ستُخرج للأسف أسوأ ما فيها، فالتطرف في الغالب هو ردة فعل وليس فعلاً بحد ذاته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.