ثلاثة انقلابات في الطريق للأخير

كان يمكن لمحاولة انقلاب الاتحادية الفاشل أن تصبح مصدراً للإلهام والعظة وبدء المراجعات لكل أطراف الثورة المستهدفة بالانقلاب، سواء من حكم أو من عارض. لكن الاستسلام لمشاعر الكراهية والرغبة في توجيه ضربة قاصمة للخصم صنعت حُجباً أعاقت التعلم من التجربة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/30 الساعة 03:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/30 الساعة 03:53 بتوقيت غرينتش

الأول
جمعة التنحي 11 فبراير 2013.. داخل غرف قصر الاتحادية ووزارة الدفاع وعبر الهاتف مع عواصم مهمة، تهامس الجميع بشأن ضرورة رحيل مبارك مع الاحتفاظ بجوهر نظامه. كان الطريق شاقاً ويحتاج لعملية مناورة وخداع طويلة النفَس لاحتواء ثورة بدت غير قابلة للكسر، ولو باستخدام كل عناصر القوة والترهيب المتوفرة عند مؤسسات الدولة.

فقد قدمت ما يزيد على 800 شهيد وهي تتشح برومنسيتها، فكيف لو جرى استفزازها؟!

بدأت الخطة بتنحي مبارك، لكن الأهم نقل سلطته كاملة لكيان لم يكن يذكره أحد، وهو المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

لم يكن نقل السلطة لهذا الكيان كافياً، فغضب الشعب كان قد وصل لحالة لا تُخيفه فيها أسماء مجالس عليا أو سُفلى؛ لذا اقترن كل ذلك بخطة عاجلة للإنهاك والتسويف واختلاق الأزمات واستفزاز الخلافات.

احتفل الشعب بخلع الرئيس الفاسد مساء الجمعة وسهر لفجر السبت، ثم غفا الجميع بعد مارثون 18 يوماً من المواجهات والغضب.

هدوء وسعادة لم تعرفها مصر خلال ستين سنة سوى ما صاحب نصر أكتوبر من مشاعر فرح وأمل.

لم يغمض لممثلي الدولة العميقة جفن، فصباح الأحد 13 فبراير، وبعد أقل من 36 ساعة، صدر أول إعلان دستوري يُنشئ لجنة لإعداد مقترح لتعديل دستور 71 في ذات النصوص التي كان مبارك قد اقترح تعديلها.

اكتمل الانقلاب، حتى قبل عمل اللجنة، ورغم الإعلان الدستوري الذي صدر لاحقاً في 30 مارس والذي أسقط كامل الدستور ولم يكتفِ بتعديله، ورغم كل ما تبع ذلك من انتخابات برلمانية أو رئاسية. فقد أفلح الانقلابيون في جلب الجميع إلى حلبة للصراع، ولم تكن كل الأحداث اللاحقة سوى إجراءات لإدارة وحصد نتائج الانقلاب الأول.

الثاني
كان الانقلاب الأول تمهيدياً بقصد تأطير مسرح العمليات ووضع كافة الأطراف في المساحة التي رسمتها يد المخططين. ومنطقي أن تتبعه إجراءات مكملة، ولذلك جاء الإعلان الدستوري المكمل في 17 يونيو 2012.

جرى حل مجلس الشعب المُنتخب يوم الخميس 14 يونيو 2012 بعد مارثون مُنهك، نجح فيه الانقلابيون في إيقاظ كل أسباب العداء بين القوى السياسية وأطياف المجتمع، حتى أن الشعب الذي قاتل ليختار برلمانه لم يعبأ كثيراً بحله، وهو ما اعتُبر نجاحاً منقطع النظير لخطة الانقلابيين.

وجاءت الجولة الثانية للتصويت لاختيار رئيس للجمهورية يومي السبت والأحد 16 و17 التاليين، فمال كثيرون لعدم الدخول في معركة الدفاع عن أول برلمان شرعي منتخب، حتى لا يعكروا صفو انتخابات الرئاسة، غير مدركين لاستناد خطة الانقلابين إلى التفريق بين القوى السياسية من جهة، وإجهاض المؤسسات المنتخبة من جهة أخرى، بحيث يأتي الرئيس وحيداً بلا مؤسسات تؤازه، ويبقى مُحاطاً بالمؤسسات الانقلابية فقط.

بمجرد إغلاق الصناديق أمام المصوتين في اليوم الأخير لانتخابات الرئاسة، أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة إعلانه الدستوري المكمل، الذي قلص سلطات رئيس الجمهورية المُحتمل، ورد السلطات التشريعية وغالبية التنفيذية للمجلس، وجعل صلاحيات الرقابة على وضع الدستور بيده، بالتعاون مع المحكمة الدستورية التي ضمن مبارك تشكيلها من قضاة موالين لنظامه ومعادين للثورة، ومنح الجيش صلاحيات أمن داخلي.

كان الانكسار الأول لهذا الانقلاب، أن تزامن معه الإعلان عن اجتماع الجمعية التأسيسية يوم 18 يونيو 2012 التي ظن الانقلابيون أنها دُفنت مع حل مجلس الشعب؛ ثم إصرار التأسيسية الصريح بأنها السلطة الدستورية العليا في البلاد ورفضها أي تدخل من المجلس الأعلى أو المحكمة الدستورية في إدارة عملها.

وكانت الهزيمة الثانية لهذا الانقلاب يوم 12 أغسطس عندما أصدر الرئيس مرسي إعلانه الدستوري الأول بإلغاء الإعلان الدستوري المكمل.

في هذه المرحلة شكلت الجمعية التأسيسية والرئاسة حائط صد أمام تدخلات المؤسسات الانقلابية، وتمكنا متساندين من إسقاط الانقلاب الثاني.

الثالث
تبين للمجلس الأعلى -رغم ما دخل عليه من تغييرات محدودة في الأشخاص- أنه لم يعد بإمكانه التحرك منفرداً لتنفيذ انقلابه الثالث، فتجربته أثبتت أن وجود مؤسسات كالتأسيسية والرئاسة، مع توّفر قدر معقول من التوافق بين القوى السياسية يعني استحالة نجاح أي انقلاب.

كان قد تواصل منذ الإعلان الدستوري المكمل مع بعض الشخصيات والقوى يطالبهم بالامتناع عن الانضمام للتأسيسية مقابل تسميتهم في تأسيسية يعينها لاحقاً. ولما أن فشلت خطته وسقط الإعلان الدستوري المكمل انتقل لتوزيع الوعود على القوى السياسية التي استمرت في الجمعية رغم إغراءاته الأولى. ونجح في بداية نوفمبر 2012 -أي بعد حوالي خمسة أشهر من عمل الجمعية- من التأثير على القوى السياسية المدنية والكنيسة ودفع أغلبها للانسحاب العلني من الجمعية.

صاحب ذلك تظاهرات احتجاجية ترفض التأسيسية التي كانت جزءاً من ترتيبات الدفاع في مواجهة الانقلاب الثاني. وانتقلت الاحتجاجات لقصر الرئاسة فيما أُسمى بأحداث الاتحادية. وأغلق وزير الداخلية الانقلابي تليفونه لكي لا يرد على الرئيس، ودعا وزير الدفاع الانقلابي لحوار وطني بعيداً عن الرئاسة في محاولة للإمساك مرة أخرى بخيوط اللعبة، وسربت شخصيات كبيرة بالمعارضة أن الجيش معها، وحاصرت جموع بالمولوتوف القصر الرئاسي، وجرت محاولة لقتل الرئيس أو على الأقل لإهدار كرامته عند خروجه من قصر الرئاسة.

وصلت ذروة الأحداث بعد صدور الإعلان الدستوري الثاني من الرئيس يوم الخميس 22 فبراير 2012..
كان واضحاً أن الانقلاب يستند لخلق حالة معارضة سياسية مشروعة تُستغل لإخفاء حراك خفي لنشر الفوضى بما يمنح الانقلابيين لحظة مناسبة.

جرتْ مواجهة هذا الانقلاب على عدة محاور: الأول بالتواصل مباشرة مع الشعب بأن الانقلابيين لا يرغبون سوى في وقف مسيرة بناء المؤسسات الديمقراطية، فتم تسليم مشروع الدستور في أول ديسمبر 2012، بعد معركة إعلامية وضعت التأسيسية نفسها مباشرة تحت عيون الشعب، لتواجه الدعاية التي طالتها. وفي المقابل نزل أنصار الشرعية لحماية مقر الحكم، ثم توجه الرئيس بدعوة واضحة للحوار الوطني، والذي بدأ يوم 8 أغسطس، ونتج عنه في يومه الأول إعلان دستوري جديد يلغي الأول المختلف عليه، ويضع طريقاً لفرضية رفض الشعب للدستور، بأن يجري انتخاب جمعية تأسيسية جديدة انتخاباً مباشراً خلال ثلاثة أشهر، بما يشي بعدم الإصرار على تمرير الدستور إذا رغبت الأغلبية على رفضه.

فشل الانقلاب الثالث لأسباب عديدة، لكنه ترك شروخاً هائلة في جسد التماسك المجتمعي وفي العلاقات بين القوى السياسية وفي نسيج الثورة الذي كان قد جرى نسجه بتؤدة منذ 2005 وتقويته في الثماني عشرة يوماً التاريخية للثورة.

الطريق الأخير
كان يمكن لمحاولة انقلاب الاتحادية الفاشل أن تصبح مصدراً للإلهام والعظة وبدء المراجعات لكل أطراف الثورة المستهدفة بالانقلاب، سواء من حكم أو من عارض. لكن الاستسلام لمشاعر الكراهية والرغبة في توجيه ضربة قاصمة للخصم صنعت حُجباً أعاقت التعلم من التجربة.

عاد الانقلابيون بقيادة وزير الدفاع خائبين من موقعة الاتحادية، لكنهم واصلوا الليل بالنهار ليُصلحوا من أخطائهم وليُعظموا مكتسباتهم. كانت أكبر مكتسباتهم على الإطلاق الشرخ الكبير بين قوى الثورة، بالإضافة إلى الغطاء القانوني الذي اكتسبوه بتكليف الجيش مهمة مساعدة الشرطة في حفظ الأمن.

خرج الرئيس وبيديه إيجابيات لا بأس بها أيضاً: فقد تخلص من كل أساس دستوري للانقلابيين بعد أن أقر الشعب الدستور، كما أن لديه حكومة منحها الدستور سُلطات واسعة لا يبقى سوى أن تمارسها، وبجواره مجلس للشورى جعله الدستور سلطة تشريعية لحين انتخاب مجلس النواب.

كان الانقلاب المتوقع مختلفاً فهو سيخوض هذه المرة معركته في مواجهة وضع دستوري مكتمل، بينما هو عارٍ من كل أساس دستوري أو شرعي، لكنه حاول معالجة ذلك بمزيد من التدثر بالقوى السياسية المعارضة للسلطة الوليدة. فقد كان كسب هذه القوى بجانبه قضية حياة أو موت بالنسبة له.

القاعدة: غالباً ما تتمكن الشرعية الدستورية من حسم معاركها مع الانقلابيين إذا وفرت لنفسها بعض أسباب القوة، بينما تكسب الانقلابات الجولة إذا تمكنت من اكتساب غطاء سياسي.

لا توجد نماذج مجردة.. لكن توجد تجارب للتعلم.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد