رغم أن الاضطراب العقلي مصطلح جامع تنضوي تحته عدّة من الأمراض النفسية والعصبية، تتفاوت حدّتها صعوداً وهبوطاً مثلما تتباين أسبابها بين الاختلالات العضوية المحسوسة وبين الضغوطات والصعوبات المعنوية -وهي الغالب- التي تنشأ في معايش الناس وحياتهم.
ورغم التعريفات والتفسيرات الكثيرة في هذا المجال، فإنها جميعها ظلّت حصراً في الجوانب الصحية فقط ولم تنتقل لغيرها من الجوانب إلا في وقت متأخر في هذا الزمن الذي باتت لا تنقضي غرائبه؛ حيث جرى استخدام لفظ (الاضطراب العقلي) أو (الاختلال النفسي) أو ما شابههما في علوم السياسة وخفايا الاستخبارات لأغراض متنوّعة غالبها يصبّ في خانة تنفيذ جرائم بالنيابة عن جهات ارتأت إخفاء صفتها بالتواري خلف هذا المصطلح الفضفاض.
ربما أن بداية هذا الاستخدام الخبيث كانت على أيدي الصهاينة المجرمين، بالضبط في جريمة الحريق الضخم للجامع القبْلي الموجود في الجهة الجنوبية للمسجد الأقصى في 21 أغسطس/آب 1969، حيث التهمت النيران كامل محتويات الجناح الشرقي، بما في ذلك منبره التاريخي المعروف بمنبر صلاح الدين، في ذاك اليوم قطعت السلطات الصهيونية المياه عن محيط منطقة الحريق لتأخير عمليات إطفائه وإنقاذ ما تبقى من آثار هامة، في ذاك الوقت أيضاً كانت حميّة عموم العرب والمسلمين ما زالت مشتعلة وتوّاقة لمقدّساتها، إذ اشتعل الغضب لحريق المسجد الأقصى وخرجت الجماهير في كل أرجاء المنطقة العربية والإسلامية في مظاهرات عارمة -ربما- لم تتكرّر، وبسبب ذاك الحريق أيضاً انتفض قادة المسلمين وزعمائهم، فالتأمت أول قمة إسلامية لهم في المملكة المغربية، بل وكان من تداعيات وردود الفعل الكبيرة آنذاك إنشاء منظمة التعاون الإسلامي.
المهم أن الفاعل الذي أشعل النار في المسجد الأقصى هو شخص أسترالي يُدعى "دنيس مايكل روهان"، قيل إنه جاء القدس بغرض السياحة، تمكنت الآلة الإعلامية والدبلوماسية الصهيونية، بعد القبض عليه من ادعاء أنه يعاني من اضطرابات نفسية، احتجزته ثم أعادته إلى بلده معززاً مكرّماً!!
الجريمة اليهودية الثانية تحت غطاء الاضطراب العقلي أيضاً كانت في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل الفلسطينية، بطلها هو طبيب أميركي اسمه باروخ غولدشتاين، هاجر إلى الكيان الصهيوني وعاش في إحدى مستوطناته (كريات أربع)، في صلاة فجر يوم الجمعة 15 رمضان سنة 1414ه الموافق 25 فبراير/شباط عام 1994م دخل هذا المجرم إلى الحرم الإبراهيمي وانتظر حتى سجد المصلون وفتح نيران سلاحه الرشاش على المصلين وهم سجود، فقتل في لحظات (50) شهيداً فلسطينياً في مجزرة مروّعة استطاع باقي المصلين أن يفتكوا بباروخ غولدشتاين قبل أن يهرب بجريمته البشعة، وتعلن سلطات العدو الصهيوني أن غولدشتاين كان يعاني من اضطرابات نفسية، وأنه غير مسؤول عن أفعاله!!
ثم ما لبثت أن مضت هذه الصفة (مضطرب عقلياً ونفسياً) إلى أن أصبحت عنواناً تتخفى وراءه الكثير من الجرائم والمذابح التي يرتكبها الصهاينة، ثم تخطّت -هذه الصفة- شيئاً فشيئاً الحدود الفلسطينية إلى أن أصبحت في وقتنا الحاضر عنواناً بارزاً وفارقاً بين نوعين من الجرائم في عدة أنحاء من العالم، خصوصاً الغربي منه، حيث يمكن ملاحظة قيام بعضهم بجرائم اعتداء وقتل وتفجير وسفك دماء وترويع آمنين، تتشابه أدواتها وفظاعاتها وتأثيراتها ونتائجها لكنها تختلف في ردود فعلها لا لشيء سوى أن المجرم الفاعل صار في كثرة من تلك الأحداث والعمليات الأخيرة أحد صنفين: إن كان مسلماً (سنيّاً) يجري وصْم الجرم بالإرهابي وتُمارس بشأنه كافة عمليات (ماكينة) مكافحة الإرهاب، وأما إن كان الفاعل غير ذلك، صَمَت العالم عنه، ومارسوا بشأنه عمليات (اعمل نفسك ميت) وأغلقوا ملف الجريمة أو المجزرة باعتباره ضمن الصنف الثاني، صنف أن المجرم مضطرب عقلياً ونفسياً.
سانحة:
مجرم يقتحم بسلاحه الناري أكبر مجمع تجاري في مدينة ميونيخ الألمانية، ثم يقتل تسعة أشخاص في المجمع، منهم ثمانية مسلمين، ويثير الرعب ليس في المجمع فقط، وإنما في كامل هذه المدينة الهامة والراقية، ثم تُعلن حالة الطوارئ فيها، في النهاية يظهر مرتكب هذا الاعتداء غير مسلم فتُسجّل الجريمة في صنف مضطرب عقلياً!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.