استخدم هذا المصطلح في مصر مع كيان سمي بالجمعية الوطنية للتغيير، الذي تأسس في شهر فبراير/شباط عام 2010 وكان يرأسه آنذاك د. محمد البرادعي، ثم وجدنا هذا المصطلح يطرق أبواب مصر من جديد من خلال آخر خمس مبادرات سياسية متتالية طرحت على الرأي العام، وبالرغم من أن هذه المبادرات قد طرحت من شخصيات مختلفة بعضهم خارج مصر وأحدهم داخل مصر، فإن جميعهم أصروا على استخدام مصطلح يشير إلى أن كياناً مزمعاً إنشاؤه باسم الجمعية الوطنية أو الجماعة الوطنية!!
فمن أين تم استيراد هذا المصطلح للمصريين؟ وما هو سر الإصرار الفرقاء على استخدامه؟
نشأت الجمعية الوطنية أو الجماعة الوطنية في فرنسا مع بداية الثورة الفرنسية عام 1789 وظل قائماً في فرنسا حتى اليوم، وهو الآن يعني مجلس النواب الفرنسي، الذي يتقاسم السلطة مع رئيس الدولة في نظام حكم سياسي شبه رئاسي.
أما عن ظروف نشأة هذا الكيان فكانت مع انتشار الفساد في المجتمع الفرنسي، وسيطرة طبقة النبلاء على السلطة والثروة، وسوء الأداء الديني للكنيسة الكاثوليكية آنذاك، كل ذلك أدى إلى امتناع أغلب الطبقات الشعبية الفرنسية عن دفع الضرائب فقامت نخبة ادعت لنفسها أنها الممثلة للشعب الفرنسي، وعلى يد هؤلاء تم وضع أول دستور لفرنسا وإعلان قيام الجمهورية الفرنسية، وهذه النخبة سمت نفسها باسم الجمعية الوطنية الفرنسية.
أسست الجمعية الوطنية أو الجماعة الوطنية الفرنسية نظاماً علمانياً قائماً على إقصاء الدين – متمثلاً في الكنيسة الكاثولوكية – عن الحكم، وإطلاق كل أشكال الحريات داخل المجتمع الفرنسي حتى الحريات التي لا تقرها الكنيسة، إلا أن العكس من ذلك تماماً قامت به الجمعية الوطنية بالنسبة للبلدان الإسلامية، وللحديث حول مآسي شعوب العالم الإسلامي مع فرنسا والمد العلماني الفرنسي في ظل وجود الجمعية الوطنية يحتاج إلى مجلدات لتفصيله، ولكن من خلال هذا المقال أحاول أن أختصر من التاريخ عناوين فقط حتى تصل فكرتي للقارئ.
فبعد سنوات قليلة من تولي الجمعية الوطنية لمقاليد الأمور في فرنسا ساندت الجيش للقيام بالحملات الفرنسية على البلدان الإسلامية منذ نشأتها وحتى اليوم، ومن أمثلة ذلك:
* الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 ولم يتم إحصاء دقيق لعدد الشهداء من المصريين نتيجة هذه الحملة، إلا أن الأعداد قدرت بمئات الآلاف، فضلاً عن أشكال التنكيل الديني بعلماء المسلمين، ودخول قادة وجنود الحملة الفرنسية مسجد الأزهر الشريف بخيولهم.
* الحملة الفرنسية على فلسطين – عكا ويافا – 1799 وبالرغم من فشل القوات الفرنسية من اقتحام عكا، إلا أن هذه القوات ارتكبت مجزرة في حق جنود الدولة العثمانية وذبح الآلاف من هؤلاء الجنود على شاطئ البحر بالقرب من مدينة يافا، ولم تحقق الحملة أهدافها.
* أما ما تعرض له الشعب الجزائري من مجازر فحدث ولا حرج، فقد بدأت أولى تلك المجازر عام 1830 وخلال العديد من الأعوام المتفرقة تكررت عشرات المجازر في حق الشعب الجزائري حتى عام 1961، وقد أشارت أغلب التقديرات إلى أن عدد هؤلاء الشهداء قد بلغ المليون ونصف المليون شهيد، كل ذلك كان تحت سمع وبصر الجمعية الوطنية أو الجماعة الوطنية.
المقال هنا لن يتسع حتى لمجرد الإشارة إلى ما فعلته فرنسا في ظل الجمعية الوطنية ضد الشعوب العربية والإسلامية في المغرب وتونس وجزر القمر وموريتانيا والسنغال التي تم استعباد مئات الآلاف من شعبها وترحيل أعداد كبيرة منهم إلى فرنسا للعمل كخدام لدى الفرنسيين.
* وأخيرا ما تم في مالي عام 2013 عندما اشتبكت القوات الحكومية مع الجماعات الإسلامية المسلحة، وانهار الجيش المالي أمام الضربات العسكرية لتلك الجماعات، وكادت العاصمة المالية باماكو تقع في يد هذه القوات، فاتخذت فرنسا قراراً بالحرب داخل مالي، وبالفعل أرسلت قواتها الجوية والبرية لحرب الجماعات الإسلامية المسلحة حتى أوقفت تقدمها وقلصت أغلب قدراتها.
الجماعة الوطنية أو الجمعية الوطنية هي من ابتدع الفكر العلماني الفرنسي المغالي في إقصائه للدين عن كل أشكال الحياة، وبالرغم من أن الفكر قد منح الحقوق والحريات لكل مواطني فرنسا، إلا أنه كان حريصاً على سحق اي حريات أو ديمقراطيات قد ينتج عنها تمثيل حقيقي للشعوب العربية والإسلامية التي ترفض التبعية، وتريد أن تسترد سيادتها.
إن كل المبادرات التي طرحها بعض الساسة مؤخراً في مصر وتؤسس لجمعية وطنية أو جماعة وطنية فكرتهم غربية مستوردة، علموا ذلك أم لم يعلموا، والهدف من طرح الجمعية الوطنية أو الجماعة الوطنية هو أن يصبح أي تغيير قد يحدث في مصر لا ينحاز إلا إلى المسار العلماني، وألا يحكم الشعب نفسه بنفسه، ولكن تحكمه نخبة تنصب نفسها بديلاً عن الشعب بدعوى أنها جمعيته الوطنية، ثم تكون في مرحلة لاحقة مجلس نواب بدون أية انتخابات تماماً، كما فعلت الجمعية الوطنية أو الجماعة الوطنية في فرنسا.
وليعلم القارئ أيضاً أن هذه الفكرة قديمة ومستهلكة قامت بنفس الاسم والأيديولوجيا والفلسفة، وهي ادعاء نخبة أنها تمثل كل مكونات مجتمعاتها في بلدانها، والتي كانت مستعمرات فرنسية في وقت من الأوقات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الجمعية الوطنية في (سوريا وموريتانيا ومالي والسنغال…. إلخ).
لذلك من المهم أن يعلم القارئ أن دخول أي تيار إسلامي أو ديني تحت مظلة ما يسمى بالجمعية الوطنية أو الجماعة الوطنية يعني بوضوح أن هذا التيار قبل أن يتم احتواؤه تحت مظلة علمانية الأيديولوجيا.
وهنا تثور في نفسي بعض الأسئلة:
هل أعاد أبناء التيار الإسلامي تقييم مواقفهم السابقة عندما أسسوا لثورة علمانية تختلف عن أيديولوجيتهم تحت مسمى الجمعية الوطنية للتغيير برئاسة البرادعي، أم سيظل هذا التيار ينجرف إلى دعوات هو نفسه لا يعلم عنها شيئا؟
هل ما زل الشعب المصري في حاجة إلى مزيد من القهر والظلم والدماء حتى يعرف ما هو المستهدف من ثورته وفي أي اتجاه يكون مسار خلاصه؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.