هي اللحظات أو الساعات التي تمر و أنت تشعر كأنّك تركض و تركض أملاً في أن تركب القطار الذي أخذ المحبين، هم يصرخون على حافة الباب، يمدّون أيديهم بكل طاقاتهم، يتوسلون خطواتك حتى تصمد، أصابعهم متفرقة عسى أن تتوحد كلها حتى تصبح بالطول المناسب لتصل إليك، لا زلت تركض، ترجو القطار أن يبطئ كثيراً كثيراً، كل وحدات الطاقة لديك تنفد، تخونك أعضاؤك؛ لتجد نفسك تجثو على ركبتيك، تحتويك حسرة الفراق، تملؤك حسرة الفقدان، ها أنت هنا، و هم هناك، فقدتهم، و لن يعودوا، قد تذهب و لكن ليس من المؤكد أنّك ستراهم، لا بد أن يملأك الأمل و لكن، على الشك أن يحتويك حتى لا تصعق. هي تلك المرات التي نرى فيها أنفسنا عاجزين، نقتفي آثار خطواتهم، نلوم أنفسنا كثيراً لَم عرفناهم؟، أما كان من الأولى أن لا نعرف عنهم شيئاً؟ لربما كان عدم معرفتهم أقل ألماً ممّا أنا فيه، و لك أن تسأل أي إنسان فلكل منا قصيدة خطتها مشاعره بعد فقدان.
من مساوئ الطب – و قد يكون من محامده- أنّك تعرف كثيراً، تعرف لدرجة متعبة أحياناً؛ فعلى سبيل المثال قسّم علماء النفس التعامل مع الأخبار السيئة بحياتك أو بالأحرى الصدمات إلى خمس مراحل، قد يتقدم بعضها، قد يتأخر البعض الآخر و قد تجتمع مرحلتان في آن واحد لكن في نهاية المطاف لا بد لك أن تأخذ قسطاً وفيراً منها، كافياً لأن يجعلك تحتار في شأنك، و معرفتي بهذا قد أضرتني كثيراً، فأنا أراقب نفسي أين وصلت في هذا التتابع و لا أراني دخلت به أصلاً فأشك في أصلي الإنسانيّ أو أنهار لطول الطريق المتبقي لكي أتجاوز هذه المصيبة، أو قد تمر عليك مشكلتان أو أكثر في ذات الوقت – و هذه هي حال الدنيا- فينتابك شعور بالنسبة لإحداهما و النقيض تماماً بسبب الأخرى و لطبعي الأنثوي فأنا سأعتمد على الأسوأ و أجعله نطاق حياتي. و من باب الشيء بالشيء يذكر فالمراحل الخمسة هي: الإنكار، الغضب، التفاوض، الاكتئاب و يختمها التقبّل النفسيّ أو بمعنى أصحّ الاستسلام.
في الفترة الماضية، كابدت ما كابدت وواجهت كما لم أواجه في حياتي، فدخلت في مرة على صفي و أنا أصرخ " لا زلت في مرحلة الغضب، لم أعِ بعد أنّه مات، لا زال أمامي الكثير لأصل إلى السلام النفسيّ الذي أحتاجه"، و كان لا بد أن أصل لأنّي أحوم في دوامة أو بمعنى أصح، أتلوى على مشواة تجعل كل أركاني تغلي غليّاً، كمن يبحث عن مرهم يخفف به القليل من وتيرة ما يشعر، أي أحد، لا يهمّ، المهم أن أرتاح و عملية البحث لا زالت قائمة… أرأيتم كيف أنّ تفكيري الكثير بهذه المراحل أضرني، لم يوقفني في مرحلة الغضب و لكنّه أعادني إلى مرحلة الإنكار التي لا زلت أقبع بها، لهذه اللحظة لم أعِ أنّه مات و أنّه لن يستقبلني في المطار و قد استعار سيارة ابنته الكبيرة حتى تحتمل حقائبنا الكثيرة، لم أعِ بعد و فقدت الأمل في ذلك قبل أن أحصل عليه أصلاً.
أجربت، قارئي، يوماً أن تسير في أزقة مستشفى لترى أنثى قد فقدت أمّاً، ابناً، أو شريك حياة، الكثيرات منهن سيهرعن إلى أقرب شخص، سيبدأن بالتلفت يمنة ويسرى، يضربن على صدر الآخرعلّه يشعر بالحسرة التي لم تجد سبيلاً للخروج بطريقة أخرى؛ لأنّ الدمعات قد تخلت عنّا أو خافت منّا فهجرتنا.
ستبذل كل طاقاتها حتى لا تعي ما حدث، ستضرب و تضرب، تصرخ بما أوتيت من قدرة لتجد نفسها قد تحوّلت إلى جسد مهترئ. ترمي نفسها في أيّ مكان، تنساب يديها في أي مكان، تتقبّل ما سمعت، ليس لأجل شيء و لكن لأنّ عليها ذلك. و بعد كل ما شاهدت، وصلت لقناعة أنّ على هذا أن يحدث أحياناً، قد يعتبره البعض من الاعتراض على قضاء الله و قد أؤيدهم أحياناً بسبب ما أرى و لكن فلنكن واقعيين، هذا الشيء لن يغيّر شيئاً، علينا أن نعتاد على الفراق؛ لأنّ هذه الدنيا لن تكفيني حتى أشبع ممّن أحبّ، و بالمناسبة، الموت ليس هو الفراق الوحيد، حتى إعراض وجهك عن وجهي هو فراق، علينا أن نعترف أنّ في الحياة أولويات أكبر منّي و منك قارئي، أنا و أنت لن نحصل على كل شيء، سنفقد الكثير لنكون على ما نحن عليه. من السهل أن أقول أنّي أفتقد الكثيرين في هذه اللحظة، منهم من لا يزال يسير على سطح المعمورة – رغم حقيقة أنّي لا أعرف عنهم شيئاً و قد أعرف ما يعرفه الآخرون- و منهم من مات ووارى الثرى. و في ذات الوقت، من الصعب جداً أن أشبّع هذا الاشتياق، فكل ما عليّ فعله حالياً هو أن أرتخي بجسدي على سريري، قد أضحي بدموعي الليلة شوقاً لكم، سأحاول أن أقنع نفسي أنّ أروع ما حصل هو وجودكم في حياتي، سأشكر الله على الحكمة التي أهدتني إيّاها جدتي بحكاياتها، سأحمد الله أنّك كنت لي خالاً أفتخر به أينما حللت، سأذكر طرفتك عمّي العزيز، سأذكر سهرك عليّ عندما داهمتني الحمّى يا أخي. سأنام و أنا ألهج " طب نفساً إذا حكم القضاء،و لا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.