يعتقد الكثير من الكتاب والمحللين أن المحاولةَ الانقلابية التي جرت في تركيا في ليلة 15 يوليو/تموز على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحركته حزب العدالة والتنمية، استمرار للثورة المضادة في منطقة الشرق الأوسط، وبالضبط في الدول التي اجتاحها الربيع العربي منذ 2011، بداية من الانقلاب العسكري في مصر، إلى انقلاب الحوثيين على السلطة المنتخبة في اليمن، إلى ما يقوم به اللواء حفتر في ليبيا، وصولاً إلى ما تعرضت له حركة النهضة والرئيس منصف المرزوقي من مضايقات في تونس.
وما يزيد من مصداقية هذا الرأي حالة الفرح والغبطة التي عاشها أنصار الثورة المضادة من نخب سياسية وإعلامية طيلة مراحل سيرورة العملية الانقلابية السريعة؛ حيث خاطب هؤلاء الناسَ بما يتمنونه في أنفسهم لا بما يجري على أرض الواقع، وصوروا للمشاهدين بأن الأمر مقضي لا محالة، وما على أردوغان إلا أن يحزم حقائبه، ويركب طائرته الخاصة، ويبحث عمن يستقبله ويؤويه.
المؤكد أن العملية الانقلابية الفاشلة في تركيا هي مؤامرة غربية إقليمية بأدوات داخلية لإجهاض المسار الديمقراطي، والقضاء على الوثبة التنموية الاقتصادية، بإعادة تركيا إلى سابق عهدها؛ حيث العسكر من يتحكم في زمام الأمور، ذلك أن الغرب لا يرى في تركيا سوى جندي في حلف الناتو لا أكثر.
ولعل من أبرز الشواهد على ذلك، صمت العالم الغربي الذي صدّع رؤوسنا بمرافعته المستمرة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، عن الانقلاب في بدايته، بل وصفته سفارة الإدارة الأميركية في أنقرة في الرسالة الطارئة التي وجهتها لمواطنيها في تركيا بأن ما يجري هو "انتفاضة"، واللافت أيضاً أن فرنسا قامت بإغلاق سفارتها في أنقرة وقنصليتها في إسطنبول قبل المحاولة الانقلابية بيومين لدواعٍ أمنية، كما قالت، هذا دون أن ننسى التغطية الإعلامية المنحازة في تحاليلها وقراءتها للانقلابيين، وكلها دارت حول ولادة جديدة لتركيا.
صمت الغرب، وترقبه لمآلات العملية إذن، دليل قوي على أنه لا يريد تركيا قوية، ولا جديدة بل تركيا قديمة ما تكاد تنهض إلا ويجيء انقلاب عسكري آخر يعيدها إلى سابق عهدها، وهذا ما قصده أردوغان عندما أشار في أول خطاب له بعدما أجهض الانقلاب، إلى أن تركيا الجديدة غير تركيا القديمة.
خطاب المؤامرة كان حاضراً بقوة عندما اجتاح المنطقة العربية ما سمي بالربيع العربي، وإذا سايرنا هذه الخطاب، واعتبرنا أن الربيع العربي مؤامرة كونية استدرجت الشعوب العربية إلى فخاخه وشباكه، وما عاشته تركيا ليلة 15/7 مؤامرة غربية تستهدف استقرار تركيا، وإضعاف اقتصادها، فإن الأسئلة التي تطرح في هذا الصدد: لماذا نجحت المؤامرة هنا، وقاومها الشعب التركي هناك؟.. ولماذا لبى الشعب التركي نداء قيادته السياسية في حين خرجت الشعوب العربية هاتفةً ضد أنظمتها مطالبة إياها بالرحيل رغم رسائل التودد والاعتذار، كما فعل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في آخر خطاب له؟
نجحت المؤامرة هنا؛ لأنها وجدت بيئة مواتية، فهنا أنظمة تسلطية قمعية، وظلم سياسي واجتماعي.. هنا حكومات غير منتخبة، وبرلمانات لا تتمتع بالشرعية الشعبية، وأحزاب ضعيفة لا حضور لها إلا في المواعيد الانتخابية، ومعارضة ضعيفة ومزيفة صنيعة الغرف المظلمة.. هنا وعي سياسي ناقص وفي بعض الأحيان مزيف.. هنا إعلام غير حر مرتبط بالحكومات، ومن يدور في فلكها من رجال أعمال تحصلوا على ثرواتهم بطرق مشبوهة.. هنا الفساد والرشوة والسرقة.
أما هناك، فإن المؤامرة فشلت؛ لأن النظام السياسي الحاكم إفراز شعبي بامتياز، وليس حصيلة تزوير صناديق الاقتراع؛ لذلك لما سمع الشعب نداء قيادته خرج إلى شوارع تركيا وساحتها، واقفاً في وجه الانقلابيين، مناصراً للمسار الديمقراطي الذي تحقق بفضل هذه الحكومة.
فشلت هناك للمستوى المعيشي الذي تحقق بفضل السياسة التنموية الرشيدة والإصلاحات الاقتصادية المحكمة التي قام بها أردوغان خلال سنوات حكمه، فالأرقام تقول بأن الاقتصاد التركي يحتل المرتبة السابعة عشرة عالمياً، والسادسة في القارة الأوروبية، وارتفع الناتج القومي إلى 820 مليار دولار خلال العام 2013 بعدما كان 230 مليار دولار في 2003، في حين ارتفع دخل الفرد الواحد من 3.300 دولار إلى 10.800 دولار، وتضيف التقارير الاقتصادية بأن الصادرات التركية قد ارتفعت من 36 مليار دولار إلى 158 مليار دولار، كما تشير إلى أن الديون الخارجية قد تمَّ تسديدها كلياً..
فشلت هناك لوجود معارضة واعية وقوية رغم خصومتها الشديدة لحكومة العدالة والتنمية، إلا أنها عارضت العملية الانقلابية بشراسة؛ حيث دعمت الحكومة القائمة؛ لأنها تؤمن باللعبة الديمقراطية وأدواتها، واعتقادها الراسخ أن ما جاء عن طريق الصندوق لا يرحل إلا عن طريقه، معارضة تؤمن بشعبها وبأحقيته في إحداث التغيير فلا وصاية للعسكر أو غيره..
فشلت لأن هناك إعلاماً حراً صادقاً، ومؤمناً برسالته ودوره، ورغم الانتقادات التي وجهت لأردوغان من أنه ضيق على الحريات، وسجن الصحفيين، فإن القنوات المعارضة لسياسته لم تركب الموجة حتى تصفي حساباتها معه بل فتحت له منبرها عندما وجه نداءه لشعبه، النداء الذي صنع الفارق في مسار الانقلاب بإجماع المتابعين، وهذه نقطة تحسب لهذا الإعلام الموضوعي.
هذا هو الفرق بين هنا وهناك، بين العرب وتركيا؛ لذلك على الحكومات العربية التي أُعجبت بالشعب التركي وبشجاعته في مقاومة الانقلاب العسكري أن تقرأ الحدث بصورته الكاملة لا باستدعاء مشاهد منه؛ لكي يحقق طرف ما نقاطاً في صراعه مع خصومه، وأن تستوعب الدرس التركي جيداً من مختلف زواياه وأنحائه، حتى تكتشف سر ملحمة الشعب التركي، ومدى ارتباطه وتعلقه بقيادته وحكوماته، ولعل أول الدروس المستخلصة هو ضرورة احترام الإرادة الشعبية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.