كانت ولادته وقت ارتحال قبيلته لا يذكر ما حدث ولا أحد يذكر له ما حدث، وإنما ذكروا له كم العداء بينهم وبين قبيلة بكر ولم يخبره أحد كيف كان الوفاق بين قبيلته تغلب وقبيلة بكر قبل ولادته، وكيف كانوا قبيلتين أمنهما من أمن بعض، والاعتداء على أحدهما هو اعتداء على الآخر.
تدور الأيام ولا يرى إلا آثار الدماء وأطلال الخيام، ترحال من هنا وارتحال من هناك، إعداد واستعداد لملاقاة عدوهم بني بكر، غلبوهم مرة وهزموا مرة، ولم يكتفِ أي منهم، فيعاودوا الكرة بعد الكرة، وخيم الحزن على الجميع، واكتست الخيام بألوان السواد، فأيتام هنا وأيتام هناك، وثكالى هنا وثكالى هناك، وأرملة هنا وأرملة هناك، ودارت السنون وتلتها سنون وسنون، وبلغ صاحبنا عامه الأربعين.
وما زالت الحرب قائمة، ولوهلة نظر الجميع إلى بعضهم، ورأوا ما خلفته الحرب على وجوههم وعلى أجسادهم، وأحسوا بثقل كاهلهم وشيب شعرهم، واتفقوا على الهدنة، وأن تنتهي الحروب في ما بينهم، وعقدوا الصلح وعاد كل منهم إلى داره لم يعد يشغل باله ثأر من هنا ولا ثأر من هناك، ونام قرير العين مطمئناً على نفسه وأهله لأول مرة من أربعين عاماً، إلا واحداً فقط تجرأ وسأل لِمَ كان كل هذا؟.
وتوسط الجمع كبيرهم وبدأ بالسرد لهم كيف كانت من قبل أربعين عاماً حياتهم، وكيف توسد الأمر ملك يقال له كليب بن ربيعة وأخذته العزة والفخر وصار كل شيء ملكه وتزوج من قبيلتنا وصرنا أهل وذوي صهر ومرة من المرات وجد ناقة وسط إبله ليست له، وإنما للبسوس خالة زوجته فضربها بسهم في ضرعها، وتباهى بفعلته، وعلمت البسوس بما جرى بناقتها فأحست بالعار لما لحق بناقتها، فجرت الدماء في عروق ابن أختها جساس بن مرة، وذهب إلى صهره كليب وزوج أخته وقتله لما فعله بناقة خالته، وهرب جساس وطالب الجميع بالثأر لملكهم الباغي عليهم من الأساس، فكيف لهم الثأر والقاتل هارب قد يثأرون من قبيلته ولم تؤخذ قبيلة كاملة بذنب واحد فيهم، ولم تتدخل قبيلة كاملة من الأساس للثأر لفرد فيهم هناك الدية فلم يقبلوا، وهناك الصلح فلم يقبلوا.
واندلعت الحرب يا أولادي من حينها ولم تتوقف إلى الآن، وصرنا أضحوكة للعرب من بعد في حرب استمرت أربعين عاماً لأجل ناقة ورجل أخرق دخله الزهو والعجب، وفى رأيي الخاص أن عناء الحرب وآلامه كلها لن تكون كآلام المحاربين جميعهم.
عند علمهم بسبب حروبهم تلك، وإن عدت حرب البسوس أضحوكة للكثير، وإن ماتت البسوس من زمن بعيد فما زال وما زلنا نقاتل لأجل البسوس ونموت لأجل البسوس.
فالبسوس فكرة عن كل جاهل، عن كل صاحب قضية لا يعرف كنهها، عن كل ضال ومضل لا يعرف أين المسير ولا إلى أين يتجه، عن كل متكبر، عن كل مغرور، عن كل صاحب حق أضاعه بحماقته، عن كل معتد تباهى بخطئه، عن كل يد رفعت لم تعرف لم رفعت، وكل يد بطشت لا تعرف لم بطشت، عن كل فكرة خاطئة، عن كل عادة وعرف لا يقدم ولا يؤخر، عن كل نعرة كاذبة، وقبلية زائفة، عن كل فرد وُلد وُقتل، لا يعرف لِم ولد، ولا فيما قُتل، عن كل حرب دارت وتدور وستدور لأجل دنيا فقط، عن كل دنيا دخلناها وخرجنا منها كما دخلنا، عن كل بسوس حولنا وحتى لا نكون أضحوكة لمن هم بعدنا، لنا أن نسأل دوماً: لِمَ؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.