ترقبٌ هائل وزيغ للأبصار، قلوب لدى الحناجر كاظمة للفزع والهلع، بالفعل كانت ساعات صعبة وفارقة في تاريخ مصر، ساعات عاشتها البلاد تتأرجح فوق فوهة بركان، لا تدري أهي في طريقها لنجاح محاولة الانقلاب أم فشله، ولكن شاءت الأقدار أن يفشل إلا أنه ظل طي الكتمان! وجاء اليوم لنحكي حكايته بأوضح ما يكون.
ذكّرنا به؛ ما عاشته تركيا ومعها الشعوب العربية والإسلامية يوم الجمعة 15 يوليو 2016، من ليلة عصيبة بعد خطوات جادة وكبرى نجحت في بدايتها لمحاولة إنقلاب عسكري شارك فيها كبار قادة الجيش التركي، ساعات من الشعور بالتداعي والضياع والانكسار، ساعات من التضرع والتذلل والخضوع (يا الله، بسم الله، الله أكبر)، ألم وجراح وغم وكرب وهم، أوقات عصيبة وحزن وفَرَق، هي عينها المشاعر والمعاني التي عاشها الثوار يوم السابع من ديسمبر 2012 في مصر، يومها شارف كل شيء على الضياع، ولم يبق إلا اقتحام قصر "الاتحادية" وإعلان اسقاط الرئيس المنتخب محمد مرسي!
بدأت الأحداث بتهديدات مُعلنة بالانسحاب من اللجنة التأسيسية المنتخبة لوضع الدستور للبلاد، هددت الكنيسة وبعض القوى العلمانية بالانسحاب؛ ففي نوفمبر 2012 وبقرب نهاية عمل اللجنة وإجراء الاستفتاء على الدستور بدأ عض الأصابع بأقسى ما يكون، وبدأت تظهر ترتيبات موسعة بين جهات داخلية وإقليمية ودولية في صورة متضافرة؛ تستهدف تقويض المؤسسات المنتخبة وشلّها وتعجيزها، كانت الشرارة في ذكرى أحداث محمد محمود حيث تم قتل الشهيد "جابر جيكا" بعد اشتباكات للمتظاهرين في محيط وزارة الداخلية والجمعية التأسيسية، تم ترميز جيكا كشهيد في سبيل إسقاط الإخوان، بدا جيكا الأليق بهذا الهدف فاختاره قاتله بعناية وكأنه يعرفه جيدًا، تزامن هذا مع إعلان واضح بلافتة مُعلقة على أبواب ميدان التحرير (ممنوع دخول الإخوان)، كان الطلب الغير مُعلن من النظام القديم ومؤسساته وقيادات التيارات الليبرالية واليسارية والفلولية والكنسية والأزهر هو (إنتخابات رئاسية مُبكرة).
نعم.. من يومها وهذا الطلب يُراد له أن يُفرض بحيث يتم تمرير دستور 2012 بمادة تنص على إجراء إنتخابات برلمانية ورئاسية جديدة، لم يكفهم أن ضمّ الدستور وصاية عسكرية بصلاحيات واسعة لمجلس الدفاع الوطني ودسترة القضاء العسكري، أرادوا إزاحة الإخوان بأي ثمن وفي أسرع وقت، بدا أن المحكمة الدستورية التي شكّلها المخلوع مُبارك في طريقها لحل الجمعية التأسيسية، ليستمر الفراغ الدستوري في البلاد وربما تفجير الأوضاع، كان الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي وقتها خطوة في إنقاذ المشهد المتفاقم، وكبح جماح عربة الانقلاب العسكري القادمة من بعيد، نص الإعلان الدستوري على إقالة النائب العام الذي عينه مبارك، وكذا على تحصين الجمعية التأسيسية المنتخبة ومجلس الشورى المنتخب، وإعادة التحقيقات والمحاكمات في قضايا قتل الثوار.
(لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد ثورة 25 يناير أو حياة الأمة أو الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها ، أن يتخذ الإجراءات والتدابير الواجبة لمواجهة هذا الخطر على النحو الذي ينظمه القانون.) هذه المادة في الإعلان الدستوري نُظر لها على أنها تُعلن مرسي كفرعون وديكتاتور، علمًا بأنها كانت ستُلغى بمجرد إقرار الشعب للدستور الجديد، إلا أن البعض كان لا يريد دستورًا جديدًا ولا نظامًا جديدًا ولا الإرادة الشعبية ولا ثورة 25 يناير، ولكن هؤلاء لم يُعلنوها صراحة؛ وليضحكوا على بعض شباب الثورة ضعفاء الوعي قالوا لهم مرسي ديكتاتور في الوقت الذي هتفوا (يسقط حكم المرشد)، فوقف بعض شباب الثورة الصادقين ضحلي الثقافة بميادين التحرير إلى جانب عمرو موسى وتهاني الجبالي وأحمد الزند وعبد المجيد محمود رموز الثورة المضادة، بعد أن غسل أدمغتهم الإعلام وسياسيو القوى المسماة مدنية ممن تسكن أدمغتهم البيادة العسكرية.
وبدأ تشكيل وتأسيس (جبهة الإنقاذ) كجبهة معارضة والتي ستقود البلاد بعد ذلك في الثالث من يوليو 2013 إلى أبشع إنقلاب عسكري شهدته مصر، وضمّت بين صفوفها قوى ليبرالية ويسارية وفلولية وكلّهم يدّعون الثورة، وبدأ بعض الشباب المحسوبين على الثورة _جزء منهم في السجون الآن_ يدعون الثوار لحرق مقرات الإخوان وحزبها الحرية والعدالة كفعل وطني وثوري تحتاجه مصر! وبدأ سقوط الشهداء والضحايا ليس برصاص الجيش أو الشرطة أو البلطجية ولكن بيد بعض شباب الثورة!! الذي اختار حرق البلاد كيدًا في الإخوان وكرهًا لهم وانتقامًا من نجاحهم في كافة الاستفتاءات والانتخابات، فامتزجت الثورية بحماسها وبرائتها وعنفوانها مع الفلولية ببلطجيتها وخستها ودنائتها وأسافينها، لتعيش مصر فتنة شديدة لم ينبلج نهارها وحقها من باطلها إلا بشمس "رابعة" وسقوط ألاف القتلى من المصريين!
برر وقتها البرادعي رفضه للإعلان الدستوري لمرسي بأنه يضمن للإخوان تمرير دستور ذو طابع إسلامي كما أن فيهم من ينكر الهلوكوست، وأن مرسي فاز بالانتخابات في ظروف مشكوك فيها، وأنه إن لم يُصبح للقوى المعتدلة صوت سوف تندلع حرب أهلية في مصر، كما أن الشباب حسب قوله يريد كلمة واضحة من الغرب ضد مرسي، بهذه الفجاجة عبّر البرادعي _أحد قيادات جبهة الإنقاذ_ عن بؤس اللحظة التي تماها معها بعض شباب الثورة المخدوعين، ليُصبح بعض الثوار حصان طروادة الذي سيعود النظام القديم من خلاله بعد شهور، واكتمل البؤس بمشهد متوهم تحت عنوان مليونية (الشرعية والشريعة) نزل فيها مئات الألاف من الشعب تأييدًا للرئيس والحكومة ومسودة الدستور، حشدتهم فيها الشعارات الإسلامية المُفرّغة من المضمون، دعا يومها الرئيس الشعب للاستفتاء على دستور يضمن توغل سافر للمؤسسة العسكرية، بيد أنه ينص على بقاء الرئيس مدته الرئاسية كاملة حتى 30 يونيو 2016.
(السفيرة الأمريكية أبلغتنا أن حشودنا ضعيفة، ثم عندما زادت الحشود طلبت مقابلة جبهة الإنقاذ)، قالها ببجاحة بالغة عضو الجبهة عماد جاد، وبعدها بأيام وقبل الاستفتاء الحاسم على الدستور والذي أصبح استفتاءًا على شرعية الرئيس، بدأت المجزرة!! أحداث الاتحادية التي راح ضحيتها حوالي 11 قتيل أو شهيد، 8 منهم من مؤيدي الرئيس، كان السبب الرئيسي لهذه المجزرة هو تخلي قوات الشرطة والحرس الجمهوري والجيش عن حماية الرئيس وقصر الاتحادية؛ مما استوجب نزول الشعب لملء الفراغ الذي أحدثه تقاعس أو انسحاب المؤسسات، ثم بعد حسم المعركة يومها _الأربعاء 5 ديسمبر 2012_ في صالح الطرف المؤيد للرئيس، نزل الحرس الجمهوري وطالب أنصار الرئيس بالرجوع إلى منازلهم (الخميس)، ليعود بعدها بساعات بعض شباب الثورة والفلول والمأجورين والبلطجية وغيرهم نهار الجمعة 7 ديسمبر؛ ليطوّقوا القصر من جديد ويُصبح تحت قبضتهم في انتظار أمر الاقتحام والاستيلاء والسيطرة عليه، في ظل تراجع متعمّد للمؤسسات النظامية من شرطة وجيش وحرس جمهوري.
كان مقر جماعة الإخوان المسلمين الرئيسي بالمقطم والذي يحمل رمزية الجماعة ووجودها قد أُحرق مساء الخميس 6 ديسمبر، بعدها أعلن حازم أبو إسماعيل دعوته الشعب للاحتشاد الجمعة أمام مدينة الإنتاج الإعلامي (توقيًا لضياع البلاد وسدًا لباب الفتنة) حسب قوله، كانت مدينة الإنتاج الإعلامي رأس الحربة في إشعال البلاد، فمنذ حوالي ثلاثة أسابيع ومصر تعيش عمليات قتل وحرق وضرب وجرح وإصابات واقتحامات، وكان الجمعة 7 ديسمبر يوم تتويج الأحداث بانقلاب بدت معالمه في الأفق، بعد رفض جبهة الإنقاذ القاطع دعوات الرئيس للحوار، وتصميمها على إلغاء دعوة الشعب للاستفتاء على الدستور "ذو الطابع الإسلامي" الذي يضمن بقاء الرئيس لنهاية مدته، في ظل خيانة واضحة من الجيش والشرطة والحرس الجمهوري وتهديدات واضحة من أمن الدولة بالقتل لقيادات الحَراك المؤيد للشرعية، تهديدات استهدفت إثناء المؤيدين للرئيس مرسي والمسار الدستوري عن الاحتشاد أمام مدينة الإنتاج الإعلامي يومها، فتراجع البعض عن النزول وصمم آخرون وفي مقدمتم أبو إسماعيل.
كانت ليلة رهيبة ومؤلمة فالقلة التي وقفت أمام مدينة الإنتاج الإعلامي ربما وحدها؛ ترى انقلابًا هائلًا على الإرادة الشعبية وثورة 25 يناير، فيما الشعب بأغلبيته الكاسحة لا يدري أي شيء حتى اليوم! مرت الليلة مساء 7 ديسمبر 2012 كأصعب ما يكون كليلة الانقلاب الفاشل في تركيا مساء 15 يوليو 2016، مرت بمرارتها وبشاعة ما فيها، وكان مرورها وحده إعلانًا بفشل محاولة الانقلاب الأولى الواضحة على الرئيس محمد مرسي، قاد حازم أبو إسماعيل المواجهة ونجح في إفشال الانقلاب، ولكن لم يختر الرئيس المواجهة فتراجع عن الإعلان الدستوري واستمر في لغة التوافق والحوار مع من أحرقوا البلاد، وظل لشهور يتمسك بالتكتم والتستر والمداراة ونداءات التملّق (عندنا رجالة زي الدهب في القوات المسلحة)؛ حتى فقد كل شيء.
فشل الانقلاب في ديسمبر 2012، ولكن ربح من خططوا له وتحركوا من أجل إنجاحه بعدها بشهور قليلة (يوليو 2013)، ولا زالت تعيش مصر خسارة مروعة، فنسأل الله أن لا تستمر الخسارة وأن يكسب الشعب بوعي وثقافة وفهم وإدراك قريبًا وهو معًا يدًا واحدة، كما نسأله سبحانه أن لا تخسر تركيا!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.