أنا التي لطالما استجداني الكثيرون حتي أُخرج ما في صدري.. أنا التي تعودت الكتمان وما اجترأت يوماً على الكلام.. أخيراً قررت البوح.. ولكن لزاماً عليَّ قبل أن أبوح بما في صدري أن أرجع الفضل لأصحابه.. وصاحبه هنا ليس شخصاً أو فرداً، إنه حدث، مخيم تعليمي عن "الفيلم الوثائقي" لشخص لطالما كوَّنت عنه انطباعاً جميلاً مليئاً بالإنسانية والإلهام، ولكني ومن خلال أيام المخيم اكتشفت أني ظلمت أستاذي "أسعد طه" ولم أسديه حقه من الروعة، فهذا الطائر لطالما حلَّق دون أجنحة، وأسدل بإنسانيته وصدقه أملاً جديداً في حياتي بوجود من هم رائعون بصدقهم في دنيانا.
لم تنفرد أيام المخيم بروعة هذا الرجل، بل إن القدر ساق إلي زملاء متميزين كل بسيماهم، استفَزوا لديَّ حاسة البوح، أنا التي ما تحمل من الذكريات والأحداث ما يطوف بنا من مشارق الوطن ومغاربه، ومن لطافة أهل الغرب لجفاف العرب، ومن أنات الغربة لدفء الوطن، ومن غربة الوطن لجمال وإغراءات البعد.
"نشوى".. كائن شفاف نقي لا تفكر كثيراً فيما تقوله، فتخرج مشاعرها غاية في الصدق والروعة، كم غرت منك يا نشوى وتساءلت: لما يدفن الإنسان ما رآه ويراه؟، لِمَ نبني أسواراً تفصلنا عن رحابة الحياة، فلربما كلمة تخرج منك تصبح طوق نجاة وطريقاً للكثيرين.
جرأة "دعاء" التي لا أستطيع أن أفعلها يوماً دفعتني لأقرر أن لا أفكر كثيراً فيما أقوله أو أفعله.
خليط من سوريا والمغرب وتونس واليمن ومصر والعراق… كان زملائي كل بما يحمله من خبرات وهموم واندفاع مصدر إلهام وخبرات بالنسبة لي؛ حيث استحثوا لديَّ الرغبة في التغيير التي لطالما اتُّهمت بها. ربما أنه حان الأوان أن ندرك أن دولة عظمى كأميركا لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بذلك التناغم والتنوع الثقافي والحضاري والديني أيضاً لهؤلاء القاطنين هذه الأرض وبقدرتهم مهما بالغ البعض في أن يتعايشوا رغم اختلافاتهم، والأكثر إثارة أن دولاً عظمى كبريطانيا وألمانيا وكندا قد أدركت ذلك مؤخراً وأصبحت تؤسس لذلك الزخم والغنى الثقافي على أرضها.
"أنت قوية، لستِ ضعيفة لا تَدَّعي أي ضعف يتسلل إليك كل هذا من الشيطان"، كلمات قالها لي أستاذي "معاوية"، فكانت كالموج الذي حملني للشاطئ دون أن يدري.
حب "وحيد" لعمله وشغفه استقر داخلي، حتى أكون ما أبحث عنه دون تردد، فإدمان هذا المخرج المغربي لمهنته هو هديتي التي لم أنتظرها.
عبدالرحمن، وعتبة، وعقبة ثلاثة شباب أصبح الموت بالنسبة لهم خياراً دانياً لا مفر منه، تقرأ ذلك بأعينهم، همساتهم، حتى ضحكاتهم لا تخلو من من أنات الآلام التي اعتادوا مصاحبتها، أصدقائي من سوريا.. نعم تعلمت منكم أن الألم مهما عظُم فتظل الغاية في قلوبنا تُهَوّن علينا ملازمة الألم.
"حنان.. ألستِ صديقتي كيف تتركيني هكذا؟ أنا متعبة ومجهدة، طريقي مشوش، أعاني من انعدام القدرة على التواصل مع الآخرين والتعامل مع الجنس الآخر، ابحثي لي عن حل"، كانت هذه كلماتي لصديقتي الطبيبة النفسية المقيمة بأسكتلندا قبل المخيمِ بشهر، لترد عليَّ متعجبة: مَن؟ أنت! تحولت "حنان" من صدمتها من كلماتي إلى إقناعي بأن ما أظنه هو محض أوهام، وأن عليَّ أن أدخل معترك الدنيا دون قيد أو شرط ودون حسابات للألم الذي قد يتصدر لي قائلةً: وما الذي قد يؤلم أكثر مما آلمك سابقاً؟ اندفعي للحياة اندفاعاً ولا تكترثي، لم تكن "حنان" مدركة حين تحدثنا أن هذه الأيام كانت كفيلة بحل كل شيء.
يا كل زملائي، لقد تركتم لديَّ بصمة لن تُمحى، فشكراً لكم جميعاً.
أما عن بداية حكايتي، فسأبدأها معكم عن قصتي مع الحرية، مشهد أجساد مشنوقة ومعلقة في عارضة ملعب كرة القدم.. لا تزال عيني تذكرها، أنا التي لا أتذكر كثيراً من طفولتي الخصبة، هكذا فعلها القذافي، وهكذا عرضها على شاشات التلفاز، وهكذا بدأت مفاهيمي عن الحرية التي ما زلت أبحث عنها في وطننا..
"يُتبَع"
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.