التنمية والحرية.. في البدء كان الإنسان

وهذا الاستقلال السياسي المدعوم باستقلال عسكري هو استقلال في مواجهة الخارج فقط، وليس استقلالاً في مواجهة الداخل كما هو حال الديكتاتوريات المتخلفة التي تمارس استقلالها في مواجهة شعوبها فقط، ولا تستخدم أسلحتها سوى ضدها، بل هو استقلال سياسي عسكري تقيّده الديمقراطية لتضعه في خدمة الشعب؛ ليكون استقلالاً مُعبراً عنه وعن مصالحه الأكثر عمومية وجوهرية؛ وليصب في نهاية المطاف في خدمة الحلقة الأولى في تلك المنظومة المتشابكة، ألا وهي البشر !!

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/12 الساعة 05:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/12 الساعة 05:31 بتوقيت غرينتش

إن ما تعكسه المقارنات التي تعج بها التقارير الدولية من فوارق هائلة بين الأمم على المستوى الدولي ليست سوى مظهر وعرض لا يكفي بذاته دليلاً على صحة نهج معين من عدمه، فهناك كثير من العوامل العرضية المساهمة في تلك الفوارق، من فوارق موارد وظروف تاريخية واستعمار إيجابي أو سلبي، ولهذا فالحاسم والجوهري في تلك الفوارق هو منطق الفعل الكامن خلفها، والممارسات التي أنتجتها!!

فما صنع من الغرب عالماً متقدماً وغنياً، ونشدد على تقديم التقدم على الغنى، هو منظومة متكاملة تحكم طريقة التعامل مع الواقع وأساليب التعاطي مع كافة المسائل، بدءاً من أدق تفاصيل الحياة اليومية ومروراً بالمشكلات على المستوى القومي ووصولاً لتحديات ومواجهات المستويين الإقليمي والعالمي، حيث تعمل كافة المكونات بشكل مترابط ومنظومي في مسار واحد مُتضافر يلتزم الكفاءة ويحقق التقدم، وينطلق من المصالح العامة للشعب، بالاعتماد إلى/ والاستناد على المنهجية والقواعدية والعقلانية والعلمية، لا الارتجال والاعتباطية والتسلط والأساطير الخطابية!

وتبدأ حلقات التقدم بالبشر؛ باعتبارهم هدف التقدم ووسيلته، فهم قاعدته التي لا نزاع فيها، ونقطة وصوله وتجلّيه التي لا خلاف عليها، وتتجسد تقدمية هذه الحلقة في دولة تهتم بالصحة والتعليم كأساس لبناء مواطنيها مادياً ومعنوياً، وبالبحث العلمي كأساس لإدارة واقعها والتمهيد لمستقبلها، وترتبط هذه الحلقة بحلقة الديمقراطية، فالدولة لا تخشى أن يتعلم مواطنوها، وأن يكونوا بمستوى الوعي الكافي لمحاسبتها ومراقبتها، وهو ما ينعكس في تواضع معدلات الفساد، وكفاءة الجهاز الحكومي، وتداول حقيقي للسلطة (في حدود الديمقراطية المحدودة المعروفة تاريخياً)، واتساع في مناخ حرية الفكر والإبداع، وارتفاع في نتاج البحث العلمي كماً وكيفاً.

هذا المناخ من حرية الفكر والإبداع والبحث العلمي، إضافةً لتدني نسب الفساد والمحسوبية وارتفاع مستوى الكفاءة العامة، مع التدني النسبي للريعية والاحتكارية الاقتصادية؛ تؤدي مجتمعةً لبيئة أعمال تنافسية إبداعية تقوم على إنتاج القيمة المُضافة؛ ما تتجلى ثمرته فيما ينتجه الغرب من منتجات عالية التقنية، وعالية القيمة المُضافة من المعرفة والعمل والإبداع، ومن ثم عالية الربحية، ما يمثل نتاجاً طبيعياً لتاريخ عريق من التصنيع والتكنولوجيا، وليسبق بالضرورة وبفارق هائل كافة المتخلفين غير المنتجين، الذين استمرأوا الاكتفاء بعوائد المواد الأولية التي أنعمت عليهم بها الصدف الجيولوجية العابرة.

وكانت النتيحة أن هذا الغرب – ومن ساروا على دربه – لم يحقق فقط صادرات عالية حققت له نماءً عالياً وثراءً حقيقياً مُستداماً، بل امتلك أيضاً ناصية استقلاله العسكري؛ كونه أصبح قادراً على إنتاج السلاح المتقدم عالي التقنية ضمن ما ينتجه من تقنية متقدمة، ليكون هذا الاستقلال العسكري الركن الركين للاستقلال السياسي!

وهذا الاستقلال السياسي المدعوم باستقلال عسكري هو استقلال في مواجهة الخارج فقط، وليس استقلالاً في مواجهة الداخل كما هو حال الديكتاتوريات المتخلفة التي تمارس استقلالها في مواجهة شعوبها فقط، ولا تستخدم أسلحتها سوى ضدها، بل هو استقلال سياسي عسكري تقيّده الديمقراطية لتضعه في خدمة الشعب؛ ليكون استقلالاً مُعبراً عنه وعن مصالحه الأكثر عمومية وجوهرية؛ وليصب في نهاية المطاف في خدمة الحلقة الأولى في تلك المنظومة المتشابكة، ألا وهي البشر !!

وهكذا نجد أن في البدء كان الإنسان، هذا الإنسان الذي كرّمه الله، فميّزه على كافة مخلوقاته بالعقل الناقد المُبدع، الذي اكتسب به صفته المميزة عن غيره من الكائنات ككائن "صانع للأدوات"، هذا العقل- الذي يتوق بطبيعته للمستقبل – لا يمكن أن ينطلق ليبدع ويحقق المعجزات وتتحقق به حكمة الله في الأرض دون حرية العمل والنقد والتنفيذ، وهي الحرية التي تقيّدها وتقيّد فعلها المُحتمل سلطة الماضي وجثثه التي ترفض مواراتها التراب، مُتمثلةً في المصالح المهيمنة والأنظمة الحاكمة المتواطئة معها، كونها ترى فيها ة، تلك الحرية اللعينة!، وفي العقل الذي لا تتحقق فاعليته بدونها، تهديداً لبقائها واستمرارها.

هذه المصالح والنظم التي تعوق التنمية والتحديث بتسلّطها على الجسد الاجتماعي للأمم النامية؛ كونها تتضرر من متطلباتهما من ناحية، وكونها عميلة ومتواطئة مع قوى الهيمنة العالمية المُؤمِنة لبقائها من ناحية أخرى، هي ما تمنع انطلاق ذلك العقل؛ بإعاقتها وإحباطها لإمكانات نشوء بيئة ملائمة وحافزة لعمله النقدي والإبداعي الحافز للتقدم، سواء بمتطلبات وجودها ذاته، أو بما تحميه وتدافع عنه من احتكارات مرتبطة بها على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية.. إلخ، فيما تهرب من التزامات المستقبل بالتغني المُسرف بالماضي التليد؛ فتكتفي في مواجهة إلحاح مطالب شعوبها وحرج التحديات التي تجابهها أمتها بما لا تجيد غيره وما لا يكلفها الكثير من خطابات شعاراتية ماضوية خاوية من المضمون، وهي خطابات فارغة تناسب تماماً شعوباً تمت إدامة جهلها وتخلفها لتكون خاوية العقول ساخنة المشاعر، تحركها الخطابات الهُوياتية والشعارات الساخنة لا الحقائق المادية والأفكار الواقعية، وتذهلها الأوهام الذاتية والبيانات المُتشدقة بالماضي المجيد عن مستقبلها وواقعها الملموس!

وهكذا لن تتقدم شعوب العالم الثالث، لتصبح قوىً يحسب الجميع حسابها، وبناة حضارة تقدم للإنسانية ما تحترمها وتقدّرها لأجله، إلا بالأخذ بأسباب التقدم المعروفة ة، وبذات النهج الذي كفل نجاح الغرب وفشلها، وهو نبذ الاستبداد والاعتباطية والشعاراتية والماضوية، والعمل في كافة شؤونها بشكل منهجي يتجسد في "منظومة عمل تتسم بالكفاءة والعقلانية، تستهدف التقدم، وتنطلق من الإنسان"، فتعمل على بنائه اسماً ورسماً وعقلاً وبناءً، وهو ما لا يؤتي أُكله إلا بإطلاق حريته التي بها تكتمل إنسانيته وتتحق رسالته في إعمار الأرض.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد