كنت ساذجاً حينما اعتقدت أن اصطلاح "وزير الخارجية" يرجع إلى أن حامله مسؤول عن رعاية مصالح الوطن في الخارج، يحفظ حقوق أبنائه ويؤمّن حياتهم، وبدوره يطمئن ذويهم في الداخل، دبلوماسي مُحَنَّك ودارس للتاريخ، يعرف جيداً ماذا يفعل ومتى، ولا يهدر حقوقاً قائمة أو عفا عليها الزمن.
ولكن أثبتت لي الأيام خيبتي القوية، فاكتشفت أن "الخارجية" من الإخراج، وللإخراج جانبان:
الأول: إخراج المواطن من الداخل إلى الخارج وتطفيشه، أو إخراج خلق الله من المِلَّة، أو إخراج الناس من هدومها، أو إخراج الناس من دار الشقاء إلى دار الراحة الأبدية "وأعتقد أن هذا الدور يخص وزير الداخلية بنسبة أكبر".
الثاني: الإخراج بالمعنى البيولوجي، وهو الأمر الذي يسير في بلادنا بالتسلسل الآتي: يخرج الرضيع فضلاته في "البامبرز"، ثم القصرية، ثم التواليت، ومن ثم إذا أصبح مسؤولاً، تكون المحطة القادمة هو أن يخرج ما عنده في رؤوس المواطنين، وهو بالطبع لا يقوم بذلك من دماغه، فالذي فوقه يقوم بذات العملية الحيوية في رأس صاحبنا المسؤول هو الآخر.
ربما يتبنى السيد سامح شكري مدرسة دبلوماسية جديدة فاتني أن أقرأ عنها، ولكن من المؤكد أنها ظاهرة جديرة بالدراسة، على الأقل إن لم نتعلم منها شيئاً، تَكُن نموذجاً يحتذى به في الفشل الدبلوماسي.
أطاح وزير الخارجية بميكروفون قناة الجزيرة ثلاث مرات، وهو الأمر الذي حدث في إطار أن عروبته وكرامته نقحت عليه؛ لأن قناة الجزيرة تدعم أغراضاً دنيئة للكيان الصهيوني.. عظيم.. ولا شك أن الدبلوماسي له مشاعر وأحاسيس ليس من حق أحد أن يحجر عليه في التعبير عنها.. طبعاً طبعاً.. حتى ولو أخرج مدية -مثلاً- من جيبه في أحد اللقاءات الدبلوماسية وأحدث جرحاً غائراً في وجه أحدهم؛ لأنه استفز مشاعره.. ما هي هيصة بقى.
قرر سيادته بعد أن أطاح بميكروفون القناة المشبوهة والمدفوعة من الكيان الصهيوني، بكل جسارة، أن يزور تل أبيب ذاتها ويتناول العشاء مع نتنياهو ويشاهد معه مباراة نهائي بطولة اليورو. ألم أقل لك يا عزيزي القارئ إنك سوف تخرج من هدومك؟
جاء ذلك بعد أيام، أو قُل ساعات، من طلب الكيان الصهيوني بأن يصير عضواً مراقباً في الاتحاد الإفريقي، بعد زيارة نتنياهو التي بدأها من عنتيبي في أوغندا واجتمع فيها بسبعة زعماء أفارقة، وصار واضحاً مثل عين الشمس مَن يقف خلف أزمة "سد النهضة" وغيره من السدود القادمة.
وفي حين كان يصرح رئيس وزراء الكيان الصهيوني بأن "إسرائيل عادت لإفريقيا، وإفريقيا عادت لإسرائيل"، كان الرئيس المصري يقود دراجته الخاصة في المعمورة بالإسكندرية.
رأينا وزير الخارجية المصري في المؤتمر الصحفي، عن يمينه تمثال لتيودور هيرتزل صاحب مقولة: "سنوَلِّي عليهم سفلة قومهم حتى يأتي اليوم الذي تستقبل فيه الشعوب العربية أبناء الرب بالورود". كان يعلم (مؤسس الحركة الصهيونية العالمية) مدى دناءة مخططه، ومن ثم مدى سفالة قادة خصومه.
تحدث وزير الخارجية المصري عن طموحات أبناء شعب (إسرائيل) في العيش في أمان واستقرار وسلام بعد أن أصبح "بقدرة قادر" طرفاً في صراع دموي بغيض. تحدث عن خطة يتبناها الرئيس السيسي لتحقيق سلام عادل بين الفلسطينيين (والإسرائيليين)، تحدث عن وجوب التعاون والتكاتف مع (إسرائيل) لمجابهة جماعات الإرهاب المتطرفة التي تشكل خطراً على منطقة الشرق الأوسط.
السؤال الذي يُلح عليَّ الآن: مَن هم الإرهابيون الواجب على مصر والكيان الصهيوني، معاً، مجابهتهم؟ هل يقصد بهم سكان غزة الذين يحاصرهم الكيان الصهيوني من ناحية، وتُحكم عليهم مصر من الناحية الأخرى الحصار بالإغلاق المستمر لمعبر رفح؟
ثم ما هي (إسرائيل) التي تتحدث عنها يا سيادة الوزير؟ أنا لا أعرف بلداً بهذا الاسم.
أنا أعرف فلسطين.. فقط فلسطين.
—
وقعت منطقة القدس الغربية في قبضة الاحتلال عام 1948، ثم تبعتها القدس الشرقية عام 1967.
من هُنا، تصبح المطالبة بالعودة لحدود 1967، وتأسيس دولة فلسطينية عاصمتها "القدس الشرقية"، كما طالب الوزير في كلمته، وليس القدس كاملة، ما هي إلا اعتراف صريح بالأحقية التاريخية للكيان الصهيوني في شق القدس الغربي، هذا إضافة إلى أن ذلك المطلب لن يتحقق أصلاً؛ لأن المحتل لن يفرط في ذرة تراب واحدة.. وطبعاً البركة في زعمائنا.
ثم أين حق العودة؟
خذلان فَج للقضية، ولدماء الشهداء، ولأجدادنا وأولادنا معاً.
خذلان.. إن لم تكن خيانة.
—
تعلمت القراءة والكتابة من البيت قبل المدرسة، كذلك تعلمت الرسم والتمييز بين الألوان.
تعلمت منذ الصغر أن اللون الأحمر أهم الألوان، فهو لون الدماء، والدم لا تسامح فيه ولا يسقط بالتقادم. تُرى.. هل لاحظ وزير الخارجية آثار الدماء في يدَي نتنياهو وهو يصافحه؟ هل لاحظها وهو ينحني له إجلالاً؟
أحببت حصة الرسم، واعتدت أن أرسم فيها بالقلم الرصاص والألوان مشهداً لـ"حرب أكتوبر"، دبابة للعدو، مرفوع عليها علم أبيض تتوسطه نجمة داوُد بين خطين أزرقين، يشيران إلى دولة حدودها من النيل إلى الفرات، اعتدت أن أرسم جندياً مصرياً يولي ظهره لنا، ويندفع نحو العدو، لا يرتمي في أحضان العدو ويندفع نحونا، كذلك رسمت دماء مُسالة على الأرض.. دماء لها حُرمة وقدسية.
أخبروا أولادكم بالحقيقة، احكوا لهم عن كيان معتدٍّ غاصب يقتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، والرجال، يقتل الفرحة والحياة والحلم، يهدم البيوت والمدارس والمطارات، يحتل الأرض ويقول "هذا وطني".
ولِمَ كل ذلك؟
فقط امنحوا أولادكم كراسة رسم وألوان..
حتماً.. لن يتوهوا عن الحقيقة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.