لن تضر مصر!

فإذا استمرت القوى الحية والشعوب في غفلتها فسيأتي يوم ويعلن فيه النظام الحالي أن هذه السيطرة الإسرائيلية "لن تضر مصر" وأن هدفها "تحقيق التنمية ومحاربة الإرهاب". والإسرائيليون بالمناسبة لا يسعون إلى هزيمة داعش كما أعلن في مؤتمر هرتسيليا الأخير لأن هذا التنظيم يحقق مصالح متعددة للإسرائيليين وحلفائهم العرب المحليين معا، أهمها الإبقاء على خطر الإرهاب كمبرر لمحاربة الشعوب وتبرير كل صور القمع

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/11 الساعة 04:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/11 الساعة 04:39 بتوقيت غرينتش

لا يمكن تصور عدم وجود عقل مدبر يسعي لتدمير مصر ولا يمكن تصور أن هذا الكم من السياسات والمواقف الكارثية هي نتيجة سوء التخطيط أو الجهل. المؤكد هو وجود عقل مدبر يعمل على تدمير البلاد على نار هادئة وبإستغفال قطاعات واسعة من الشعب عبر طرق الدعاية والإعلام المضلل.

من السنن الكونية أن يسعى خصومنا الخارجيون إلى إضعافنا وإخضاعنا، لكن الجديد هو مواقف وسياسات الحكومة التي تساعد بلا شك في مخطط التدمير هذا.

*****

العراق تم تدميره على مدى زمني ممتد، وجاري تدمير سوريا منذ أكثر من خمس سنوات، وسلاح الطائفية هو السلاح الفعال في الدولتين للإجهاز على ما تبقى بعد الحصار والحروب الأهلية. وما تبقى في المشرق إلا مصر التي تعرضت تحت حكم مبارك لعمليات إفساد وهدم متعمدة بدأت بتقييد السياسة الخارجية فيها باتفاقيات الصلح مع الإسرائيليين وإجبارها على التخلي عن أدوارها المؤثرة عربيا وافريقيا وإسلاميا ودوليا، وكانت الحجة هي التفرغ للتنمية ولمشكلات مصر الداخلية.

لكن انتهي الحال بمصر إلى تفاوت طبقي هائل وفشل تام في معالجة الفقر والأمية وإلى تدهور شديد في الخدمات الأساسية من تعليم وصحة ونقل وغيرها. كما ظل ملايين المصريين يسكنون المقابر والعشوائيات وظلت مناطق الصعيد وسيناء وغرب البلاد دون أي عمليات تنمية حقيقية، وانخرط الجيش في أنشطة اقتصادية فظهرت مصالح اقتصادية قوية لطبقة من الجنرالات، كما صارت محاربة الإرهاب هي المهمة الأساسية للجيش وانشغلت أجهزته الأمنية بتعقب المعارضين والسيطرة على مؤسسات الدولة بدلا من تأمين البلاد وتقوية جبهتها الداخلية من الاختراق الخارجي الذي تحدث عنه مسؤولون إسرائيليون قائلين أن الاختراق الاجتماعي والسياسي والأمني الذي تم في مصر منذ اتفاقيات السلام لا مثيل له.

*****

كانت ثورة يناير فرصة ذهبية لإنقاذ مصر (الدولة والمجتمع والجيش) بعد أن نجحت القوى الحية في القيام بثورة سلمية جمعت كل التيارات الوطنية على هدف واحد هو إقامة دولة العدل والقانون والشفافية والمحاسبة، لكن خصوم الثورة في الداخل والخارج وقفوا بالمرصاد لها، وهم منذ 3 يوليو 2013 يعملون طبقا لإستراتيجية محددة (وهي بالمناسبة إستراتيجية معروفة في أدبيات السياسة لمواجهة الثورات وحركات التحرر وطبقت في حالات أخرى) ليس لإجهاض ثورة يناير فقط والعودة إلى ما قبل 25 يناير وإنما لاستكمال مخطط التدمير الممنهج وإيصال البلاد إلى حالة من الخراب الذي لا تصلح معه أي محاولات للإصلاح والإنقاذ.

لهدم مصر من الداخل جبهات متعددة، فبجانب إفساد السياسة وتأميمها لصالح أقلية تحتكر السلطة والثروة والإعلام وتسيطر على المجتمع ومؤسسات الدولة بما في ذلك الجيش والشرطة والقضاء، هناك تقسيم المجتمع وزرع الكراهية بين فئات الشعب على مستويات متعددة، وتأميم السياسة وتخريب الحياة السياسية والنقابات والمجتمع المدني، وهدم القيم والأخلاق عبر سلسلة من السياسات الإعلامية والتعليمية والثقافية الهدامة. بجانب فتح البلاد أمام تهريب كل أنواع المخدرات ولا سيما من دولة الاحتلال بسعر مدعم وبتواطئ جهات معينة بالدولة كما أشارت أطراف تعمل داخل الدولة.

*****

وهناك أيضا محاصرة موارد مصر المائية بهدف إدخال البلاد في كارثة لن تفيق منها لعقود طويلة. وفي هذا الموضوع تحديدا يظهر العقل المدبر لتدمير مصر جليا. لقد رفضت مصر الرسمية والشعبية بعد ثورة يناير قرار إثيوبيا ببناء سد النهضة، إلا أن الإنقسام السياسي الداخلي أدى إلى تداعيات سلبية كثيرة إلى أن اتضح في السنتين الأخيرتين أن هناك مواقف وسياسات كارثية تساعد اثيوبيا في مخططاتها في واقع الأمر.

في أبريل 2014 نجحت الدبلوماسية المصرية فى استصدار قرار رسمي من الاتحاد الأوروبي وروسيا وإيطاليا والصين والبنك الدولي بوقف تمويل بناء سد النهضة، وتجميد قروض دولية لإثيوبيا بقيمة 3.7 مليار دولار. لكن وفي ظل دعاية سياسية تدعي الحزم في معالجة القضية، خرج علينا فى 5 أغسطس 2014 الجنرال السيسى فى إطار الحديث عن مشروع تفريعة قناة السويس ليقر ضمنيا بأن بناء سد النهضة حق لإثيوبيا، وأن السد سيؤثر على حصتنا من المياه، كما تحدث عن ضرورة إدخال نظم ري حديثة لتوفير المياه.

ثم فى 18 مارس 2015 وبعد الاعلان عن التوصل لإتفاق مع إثيوبيا والسودان بخصوص السد أرسل وزير الري آنذاك خطابا رسميا ينفي علمه بهذا الاتفاق ردا على خطاب رئيس الوزراء الذي أراد الاستفهام من وزير الرى عن مضمون الاتفاق!! وبعد أيام معدودة (فى 23 مارس) فاجأ السيسي الجميع ووقع اتفاقية مبادئ مع اثيوبيا بخصوص إقامة سدود على نهر النيل ملغيا بهذا (عمليا) الاتفاقيات التى تمنع إقامة أي سدود على نهر النيل إلا بموافقة مصر والسودان، وملغيا أيضا القرار الأوروبى الروسى الصينى بمنع تمويل سد النهضة، بل وأعلن السيسي أن لإثيوبيا الحق فى إقامة سدود لإنتاج الكهرباء كشرط ضروري لنهضة اثيوبيا. وإعلاميا تم استغفال الشعب والترويج بأن الاتفاق يمثل بداية للتعاون المشترك وأن "السد لن يضر مصر"!! وفي 24 فبراير 2016 قال السيسي فى مؤتمر 2030 أن الحكومة ستعالج مياة الصرف الصحى (وهذا يكلف مليارات الجنيهات) لإستخدامها كمياه للشرب أثناء نقص مياه النيل بعد بناء سد النهضة الإثيوبى، أي لمعالجة أضرار السد!!

ومؤخرا ذهب رئيس وزراء دولة الاحتلال نتنياهو إلى إثيوبيا ليعلن أن بلاده ستدير الموارد المائية وكهرباء سد النهضة في إثيوبيا في تتويج لعقود طويلة من السياسة الخارجية الإسرائيلية لإختراق افريقيا ومنافسة القوى التي لها نفوذ هناك كتركيا والصين وليس مصر بطبيعة الحال التي أضعفت اتفافيات كامب ديفيد سياستها الخارجية منذ 1979 ثم أخرجها مبارك من أفريقيا منذ مطلع التسعينيات. وقد تم هذا في ظل صمت مصري تام كما هي العادة أمام أي اختراقات إسرائيلية، بخلاف إعلان وزارة الخارجية عن أنها تراقب عن كثب التحركات الإسرائيلية في افريقيا!!

*****

الإسرائيليون يمدون سيطرتهم من الفرات إلى النيل عمليا وهم يسيطرون على المنطقة ومقدراتها في واقع الأمر عبر أقليات حاكمة محليا ولم يتبقى إلا الإعلان الرسمي. واستهداف مصر جزء من استهداف المنطقة كلها التي ينظر لها في استراتيجيات القوى الكبرى على أنها منطقة واحدة تمثل مصدر تهديد محتمل إذا ظهرت حكومات وطنية منتخبة، وتوحدت دولها، واستخدمت عوامل القوة التي تمتلكها لتحقيق مصالح شعوبها.

فإذا استمرت القوى الحية والشعوب في غفلتها فسيأتي يوم ويعلن فيه النظام الحالي أن هذه السيطرة الإسرائيلية "لن تضر مصر" وأن هدفها "تحقيق التنمية ومحاربة الإرهاب". والإسرائيليون بالمناسبة لا يسعون إلى هزيمة داعش كما أعلن في مؤتمر هرتسيليا الأخير لأن هذا التنظيم يحقق مصالح متعددة للإسرائيليين وحلفائهم العرب المحليين معا، أهمها الإبقاء على خطر الإرهاب كمبرر لمحاربة الشعوب وتبرير كل صور القمع والإستبداد والحكم العسكري بالمنطقة من جهة، والزج بجيوش المنطقة في معارك عسكرية لإنهاكها وتدميرها من جهة أخرى. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

هذه التدوينة نشرت على موقع البديل للاطلاع على التدوينة الأصلية اضغط هنا

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد