كان الجو هادئاً كالمعتاد، وعجلة الحياة تدور كما تفعل دائماً، والبلد في أمن وأمان، وفي مدرجٍ بكلية الهندسة بالجامعة، كان صوت مظاهرة قد ارتفع قبيل رفع أذان الظهر، دعاني فضولي إلى اكتشاف هؤلاء الرافضين للواقع الجديد، رغم أن والدتي كانت قد أخذت علي المواثيق ألا أخرج في مظاهرة معهم، خوفاً عليَّ؛ لأنها لم يكن لديها إلا أنا، وبنتان، وقد توفي والدنا قبل سبعة أشهر من وقوع الأزمة.
تشبعت بالفضول فوقفت كالمتفرجين الكثر الذين يتحلقون على جانبي طريق المظاهرة، وبينما نحن على ذلك، وجدت هرجاً ومرجاً وكراً وفراً في صفوف الطلاب مَن تظاهر منهم ومَن لم يتظاهر، ولم تسعفني قدماي للهرب، فقبضوا عليّ، ومن هنا بدأت المشاكل، اقتادوني إلى مكان لم أكن أعلم ماهيته، أخذوا يعذبوننا، على مدار الساعة؛ لينتزعوا منا اعترافات تلو أخرى، ما أنزل الله بها من سلطان، لقد باتوا خبراء في التعذيب، لم تعد أعقاب السجائر ولا الوخز بالإبر تكفي يا أمي، لكم عرّونا ليحتقرونا، وجوّعونا ليذلونا، وعطّشونا، وخنقونا بالغاز والدخان، وهذا أهون ما فعلوا، ومن فرط الإنهاك كنا نقول كلاماً لا نعلمه، ونصدق على تهمهم التي لم تكن لنا بها صلة، وإنما أردنا أن نريحهم ونستريح، كنت أفكر في أمي، كيف ستعرف أني هنا، وما وقع هذا الخبر عليها إن عرفت؟ ماذا لو صرت من أحد هؤلاء الذين يسمونهم مختفين قسرياً؟!
وتمر الشهور ولم تزرني أمي اللهم إلا في منامي، كنت أراها دوما حزينة عليَّ، لوامةً لي، وكان رجاؤها بعودتي يطفئ غضبها مني لعدم سماعي كلامها، تحكي لي أمي كم اعتصر الحزن قلبها عليَّ؛ لأنها لم تكن تعلم مكاني لشهور، ذابت أقدامها سيراً إلى مراكز حقوق الإنسان، وليس ثمة في السجون من هو بهذا الاسم ولا بهذه المواصفات.
علمت بنبأ فصلي من الجامعة، من أمي بعد أن تم اقتيادي إلى سجن الفيوم، بعد أن انتقلت من صفة المختفين قسرياً، للمعتقلين على ذمة قضايا قائمتها طويلة، في الاختفاء القسري، يكثر الضغط عليك، فلا محامٍ لك، ولا حقوق، ولو مت فليس للأمن صلة بموتك؛ لأنك لم تكن في سجونهم، تضطر للاعتراف تحت التعذيب والضغوط، ثم تأتي مهمتهم الثانية بإيداعك السجن، فقد بات لديهم سجين واعترافات، كل ما عليهم تحريك دعوى، قد تأخذ فيها إعداماً من أول جلستين، أو مؤبداً، أو تخرج بكفالة، نعم هذه أقرب، فالبلد في ضائقة مالية.
ماذا لو فرضنا جباية على المعتقلين ليخرجوا، ويمكننا أن نسميها كفالة، سوف ينتعش الاقتصاد أليس كذلك؟ وإذا أردنا المزيد من المال، فلنعتقلهم ثانية، ولنخرجهم بكفالة وهكذا، قصتي ليست مأساوية لهذا الحد أعلم هذا، لكنها ضمن قصص كثيرة تروي فظائع مروعة تتكرر وبلا أسف من بقايا ضمير لأحد.
من منا لم يهدده أبواه بعدم الخوض في مسائل السياسة، لأنه إن فعل، فسيروحُ وراء الشمس، لكني لم أخُض في مسائل السياسة إطلاقاً، كما لم يتح أحد لي فرصة البوح بما حدث بالفعل، وبعدما كبرت في السجن ولبثت فيه بضع سنين، وخرجت، وجدت أن شيئاً في البلد لم يتغير، وأن الأمن والأمان كما هما، يملآن جنبات البلد وزواياها، وأن السياسيين تغيروا مراراً، لكن نهجهم وخلفياتهم لما تتغير بعد، الآن من الممكن أن يقبضوا عليَّ لأني فهمت اللعبة.
لكي يستمر هؤلاء على مقاعدهم في هذه البلاد، لا بد أن تملأ السجون، وأن تستند على تخويف الناس، من بعضهم البعض، وأن تكون قيِّماً على عقولهم وآرائهم، إنهم لا يرون مخلصاً في هذه البلاد إلاك، حتى لو أتيتهم بما يكرهون، سيضطرون لحبه حيناً؛ لأنهم خائفون منك، وحيناً آخر لأنهم خائفون من فتح دولة ما وراء الشمس عليهم لتبتلعهم، أو ليخرج لهم البُعبع.
هي بلاد ما وراء الشمس؛ لأنها دولة تحت أطلال المجتمع، وفوق أي سلطة فيه، دولة موازية، بها أناس من كل فئات المجتمع، لا جريرة لهم ولا ذنب، وضعوا بلا اختيار منهم، مع الجنائيين، لا يستطيعون رفع أعينهم في سجّانيهم.
وفي السجن آهات في كل مكان، تسمع وقع السياط على أخيك، فلكأنها تقع على قلبك أنت، وفي السجن يتآزر المسجونون معاً يقسمون النوم بينهم والرغيف والكتب، ويضمدون الجراح، يتكافلون حتى يتكيفوا مع بلاد ما وراء الشمس، حيث العتمة والتعتيم، والبطش، حتى يأتي يوم يلمسون فيه معنى الوطن، وحتى ذلك الحين، لا يعلم أحد ماذا سيفقد في لحظة جنون ضابط يتخذ من القانون سِتراً على ما يجتني، هل سيفقد عيناً أم كلتيهما، أم يديه، أم قدميه، أم يحرقون السجن وهو بداخله؟ لا يعلم ماذا ينقصه كإنسانٍ كي يعيش كبقية الخلق، كي يشمله أمن السلطة وأمانها الذي لا يبلغ شيئاً منه، هذه القصة من خيال لم يعد ثمة فرق كبير بينه وبين الواقع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.