يمر المسلمون بحالة استضعاف هم سبب رئيسي فيها، ويوازي ذلك نشاط محموم، داعش جزء صغير منه، وأجهزة دولية هي رأس الحربة فيه، وتعقد الأمور جعل قسماً منا يشارك في تشويه صورة الإسلام وزيادة الأمور تفاقماً.
وتلخيصاً للأمر أقول إن هناك مَن يشيع في كل ميدان أن داعش ليست هي الإرهاب بل المسؤول عن ذلك الإسلام نفسه بما حوت نصوصه من حث على العنف ودعوة إلى قتال الآخرين، وبياناً لذلك أقول:
– إذا طالب العلمانيون بفصل الدين عن الدولة، فقد طالبنا ولا نزال بفصل الدولة عن الدين! (مقال في نيوزويك العربية أواخر 2005)؛ لأن الدولة الاستبدادية المعاصرة هي التي استولت على المؤسسة الدينية بالحديد والنار، وشلت فاعليتها ثم ساقتها لمآرب الأجهزة الأمنية؛ لذا نرى أن الأعمال النهضوية هي أعمال ضعيفة وأقرب إلى الفردية، والحكومات لا تبالي بضخ الأموال، وجر الدين إلى غاياتها، ومن يأبى فقد تكفلت السجون بكم أفواههم وصولاً إلى تصفيتهم (ولدي مئات الأمثلة من بلدان شتى ولعل أبسطها قمع مجموعة داريا السلمية، ومنها لاحقاً الأخ الشهيد غياث مطر، والأخت مجد شربجي) وكان أحد موجهيهم الأساسيين هو الأستاذ عبدالأكرم السقا (رحمه الله حياً ميتاً)، والذي كان داعية سلمياً لأقصى الحدود، ففي عام 2003 قامت مجموعة من الشباب بعمل مشروع من أربعة أقسام تقوم فكرته على نشطات صغيرة تصب في تنمية المجتمع المدني، مثل تنظيف الشوارع والحث على مقاطعة التدخين ومكافحة الرشوة، اعتقل على أثرها 24 شاباً وتم استدعاء 15 فتاة من نساء داريا إلى أفرع الأمن، وحوكم 11 منهم أمام محكمة ميدانية سرية نالو أحكاماً، منها أحكام ما بين ثلاث وأربع سنوات؛ لأنهم فقط كنسوا شارعاً في مدينتهم، وفهموا أن من أنواع الجهاد، مجاهدة التخلف والعدمية، وأن تحريك طاقات الناس ضمن محاور إيجابية عامة النفع هو أولوية شرعية وأخلاقية.
– ثانياً: إن نفس النصوص التي يستخدمها (التكفيريون اليوم) قد مرت بنا وبأساتذتنا وطلابنا، ولا يخطر في بالي أن أي شخص منا قد اهتز توازنه من خلالها، وصار إنساناً عدوانياً تكفيرياً دموياً، والسبب في ذلك أنه تم شرحها ضمن سياقها التاريخي، وضرورياتها المرحلية، وأنها حفت بالمقاصد الشرعية التي أبقتها تحت مظلة عامة من فهم متوازن للدين، وكل الآيات التي تحث على القتال كانت تحت الآية الكريمة: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190)، وتقرر لدينا أن قتال العدوان محرم، وأن القتال إنما هو لمن قاتلنا واضطهدنا، وهذا عين ما حصل من قريش، وما أتى من آيات شديدة المعاني إنما كانت في هذا السياق المرحلي.
– ثالثاً: رغم ما كان يرد في شروح فقهية مختلفة من أبعاد صدامية أحياناً، فإن الحامل الديني الاجتماعي والتدريس الراشد كان يعيدها إلى التوازن، والكتب منذ مئات السنين حافلة بكل الآراء، ولكنها لم تكن هي سبب الإشكال، بل التوظيف الماكر لها اليوم، ومن أمثلة ذلك المدهشة أن الكلام عن الفرق المختلفة وتكفيرها لبعضها كان نوعاً من الرأي الفكري، ولم يمتد يوماً إلى العدوان المادي، ورغم نفور السنة والشيعة من بعضهما وكثرة ما في الكتب من التشنيع بينهما، فإن ذلك لم يمنع التواصل الاجتماعي بينهما، وما يحصل اليوم هو استثمار سياسي للطرفين ليس للدين فيه ناقة ولا جمل، بل إن الحامل الاجتماعي المستند إلى الدين كان موجهاً رائعاً في امتصاص الكثير من الفتن السياسية، التي تغلبت اليوم فكسرت كل شيء، ولأكون صريحاً أكثر فرفض الرؤية المسيحية مثلاً للمسلم هو أمر يخص اعتقاد الإنسان، أما من الناحية العملية فقد بقي المسلم والمسيحي يتواصلان بنوع لا أسميه التسامح بل التراحم، ومن عاش في حارات الشام والكثير من قرى سوريا وبين أهلها يعرف هذا المعنى العميق.
– رابعاً: إن موضوع التصحيح والتوعية الدائمة وعدم السماح لفكر تكفيري بشد الساحة إليه عمل يقتضي جهوداً متواصلة، وكما قلت إن هذا جهد حكومات ورغم ذلك فقد تصدى له أئمة ثقات معاصرون، وحاصروه قبل أن يكبر، ومنهم الطاهر بن عاشور، ومحمد رشيد رضا، ومحمد عبده، وظافر القاسمي في كتابه عن الجهاد، فضلاً عن العشرات من الأعلام المعاصرين، ومن أهمهم الشيخ محمد الغزالي، وآخرهم العلامة القرضاوي في موسوعته عن الجهاد؛ حيث ساق مختلف الآراء ثم بين أن قول الكثرة من العلماء أن المقاتلة هي بسبب القتال لنا، وليست لمجرد الكفر (مجلد 2/ الملحق الأول ص 1417).
ومن الحق القول إن المسلم غير الضليع يكاد يضيع بين كتب ضخام يعرض فيها العالم والمفسر آراء كثيرة وأدلة متنوعة فيها القوي والضعيف، ويجب على المؤسسة الدينية أن تقوم بتنقية كل ذلك وإعطاء المسلم الخلاصة في ذلك، وهذا حق وواجب تصدى له عديدون لعل من أنشطهم وأكثرهم تبسيطا لعامة المثقفين الشيخ محمد الغزالي، وهذه مجموعة من كتبه يستطيع الباحث أن يبلور فيها مفاهيمه بشكل بعيد عن التعقيد: (جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج، كيف نتعامل مع القرآن، فقه السيرة، ليس من الإسلام، الطريق من هنا) ويمكن تحميلها المجاني، وهناك أيضاً مؤلفات القاضي الشيخ فيصل المولوي -رحمه الله- مما يضفي نوعاً من الفهم العميق والتوازن في فهم المسلم لدينه، وكل ذلك جهد يحتاج إلى النشر والتدعيم.
خامساً: إن مجتمع بلاد الشام (برأيي) هو لب الفهم الوسطي للإسلام، وما الغارة عليه إلا تدمير للفهم الديني الذي يمكن أن يتواصل مع الحضارات ويعيش معها، وهناك أفهام برية تعكس بيئاتها الفقيرة، ويراد لها بقوة المال وفرض أجهزة الاستخبارات المختلفة أن تحتل الساحة فتكسب على عدة محاور
: أولها تشويه الإسلام بطرح تكفيري دموي منفر داعش أول مقدماته، ثم مناهج صماء تتلوها لا تقوم إلا على القهر والمال، والهدف تحقيق وظائف استراتيجية في تدمير شعوب المنطقة، وثانيها: تدمير مرتكزات إسلام حي عاش مع كل الهويات والبيئات وتفاعل داخلياً وخارجياً وعليه المعول في الحفاظ على وسطية الأمة المسلمة ثم قدرتها على مد الجسور مع الأديان والثقافات والهويات الأخرى، وثالثها: زج الدين في معارك سياسية واستخدام حملته المخلصين في معارك تنهكهم اجتماعياً وفكرياً وتجعل منهم مجرد أدوات في تصفية حسابات إقليمية ودولية والخضوع لدول لم يكن الدين عندها إلا أداة لمآربها، ورابعها وهو من أخطرها: تدمير الحامل الاجتماعي في بلاد الشام، وهذا ما تم العمل عليه حتى وصلنا إلى حالة مخيفة من التفكك الاجتماعي والأخلاقي المتبوع بتشوهات نفسية حادة، وتعديل سلبي للسلوك، والتحطيم المعنوي للملايين من أبناء شعبنا، وخصوصاً النساء والأطفال، وتشريد وتهجير خيرة الكوادر البشرية، أما خامسها: فهو زرع الفتنة الدينية والمذهبية والقومية بل والمناطقية، واستخدام الدين فتيل إشعال لها كلما كادت تنطفئ.
سادساً: إن حرصي كمسلم على إعادة ترتيب فهمي للإسلام وأولوياته، والخروج من المتاهات التي تحيط بي لا يعني أبداً نوعاً من الانضباع لكل صيحة، وقبول الاتهام من جهات تُعمل معاول التخريب في هويتي، وعندما أتحرى الصواب وأبحث عن الحق فلا يجوز لي هذا بحال الاستهزاء بهويتي والتشفي من أهلي وبلدي، ولست أجد مستوى لا أخلاقياً أدنى من بعض الذين نصبوا أنفسهم للبحث عن الزلات واصطياد المرهقين فكرياً فتكون أهم بضاعة لأحدهم أن يستهزئ بدينه أو بلده أو لغته أو أهله، وكأنه من نسيج معصوم ولعله أكثر الناس فقراً معرفياً وأخلاقياً.
سابعاً: وضعنا الضعيف فتح علينا جبهات كثيرة، ورغم ذلك فلا يجوز أن نخرج عن الإنصاف والموضوعية في التعامل مع الناس والأمم، ولا أسمح لهم بإهانة لما أعتقد أو أقبل بظلم، وأرد على الحجة بالحجة، وقد لا أعرف فأصبر حتى أتعلم، وقد قال عالم قديم ما معناه: ما ناظرت عالماً إلا غلبته، ولا ناظرت جاهلاً إلا غلبني، وإحدى مشاكلنا: قلة معرفة وذخيرة معرفية هشة ومعها دعوى عريضة وأضرب مثالاً لذلك: أنني مسلم قرأت أكثر الإنجيل يوماً واطلعت على ما فيه، ورأيت أن الحكومات الغربية قد استخدمت المسيحية لمآرب سياسية وغزوات استعمارية وحملات صليبية وإبادة جماعية، بل إن فتكها بشعوب الأرض لا يعادله ظلم في تاريخ العالم كله، وفي الإنجيل آيات عديدة تتحدث عن القتل المرعب ورغم ذلك فحاشا لله أن أصف المسيحية بالتوحش، بل أفهم السياق التاريخي والمرحلي لتلك الآيات، وأبقى في غاية الاحترام مع من قال الله لي بحقهم (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (المائدة: 82).
ثامناً: هناك مثقفون وأصحاب أقلام يتصرفون بنزق وعصبية مع كل خطوة ترتيب واستنهاض، ويتمنون لو أن المسلم لا يفقه ولا ينتبه ويبقى ملفوفاً بالغلط، بل إنهم ليستدعون من بطون الكتب ما تجاوزه الزمان، ومن مواقع المشككين ما لا يغر إلا المحروم من العلم، ثم يبنون من ذلك شبكة أوهام إذا حاول الإنسان الخروج منها صرخوا في وجهه: ليس الإسلام هكذا فهم يريدون فرض رؤية محنطة له، تساعدهم في لملمة بعض الناس حولهم، ويصيبهم الفزع لكساد ما يطرحون، وأحب أن أبشرهم أن الهزات الاجتماعية الكبرى تأتي في أغلب الأحيان بوابات للوعي يتساقط فيها الضعيف، ويقوى الباحث عن الحق، ويبقى المؤمنون بعمق بأفكارهم فيهبونها أنفاس حياة قوية متجددة، وضعف اليوم ليس آخر المطاف، وبعد عام 1948 في فلسطين، و1967 في أغلب الوطن العربي سادت انتكاسة فكرية وظن الناس أن البعد الديني في حياة الناس قد مات!! فإذا به ينطلق أكثر تجذراً بكثير ونحن في مرحلة مخاض عسير، ولن تظهر آثاره إلا بعد سنوات..
تاسعاً: بعد كل ما تكلمناه! هل نحن بحاجة إلى نهوض وتجديد؟ وهل غمرتنا الظواهر وفاتنا لب عميق! وهل مؤسساتنا الدينية على المستوى اللائق من حمل قضايانا الدينية؟ وهي نعاني من تخلف معرفي ونحتاج إلى ما يقارب الثورة الداخلية في الفكر الديني، لا لنتصرف ضمن ما ندفع إليه من مآربِ جهات آخرُ همها الدين وليس هدفها إلا السيطرة عليه وتعليبه ثم إعادة استغلاله من جديد.
نعم نحتاج إلى ثورة دينية لا لنفكك هويتنا ولا لنزدري تاريخنا ولا لنكفر بذواتنا ولا لنستجيب لأصحاب أهواء وأيادٍ ماكرة، بل لنبعث روح هذا الدين متجددة فياضة في عالم يزداد بؤساً وتيهاً وحيرة، ويلزمه تجرد وأخلاق ووعي ورفض للظلم يبعثه تدين عميق.
وللحديث بقية بعد العيد.. أعاده الله على بلدنا وأهلنا توفيقاً وسداداً، وتقبل الله منهم أحسن ما يعملون.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.