سيظل الثالث من يوليو من كل عام ذكرى يوم حزين من أيام المصريين.
فقبل 3 يوليو 2013 كانت غالبية القوى السياسية المصرية وقواعدها الشعبية تظن أن مصر بعد 25 يناير لن تعود إلى ما قبل هذا التاريخ الأخير. لكن منذ ذلك التاريخ تشهد مصر أسوأ مراحل تاريخها المعاصر على الإطلاق، نظام تحكمه الأجهزة الأمنية بواجهات مدنية فشلت في إدارة البلاد مع إقصاء تام لكافة الشرفاء إن بالقتل المباشر أو بالاعتقال والنفي والإبعاد.
***
قبل 3 يوليو كانت القوى السياسية المختلفة تتخذ مواقفها على أساس أن النظام القديم سقط بلا رجعة وأن عليها ملء الفراغ في المؤسسات التنفيذية والتشريعية عبر الانتخابات.
لم تفكر هذه القوى في أبعد من هذا. لم تطرح على نفسها أيا من الأسئلة التي عادة ماتطرح عند تغيير أي نظام حكم: كيف يمكن معالجة الإرث القديم للنظام الذي سقط؟ وكيف يمكن تقليل الآثار السلبية لشكل التغيير الذي مرت به مصر وهو التغيير الثورى الذي هو أصعب أشكال التغيير في نظم الحكم؟ وما هي بقية منظومة الحكم الديمقراطي بخلاف الانتخابات؟ وما متطلبات الحكم الديمقراطي وضماناته وضوابطه؟ وما هي متطلبات الحد الأدنى وأولويات أي تغيير حقيقي؟ وما العمل مع مزاج المصريين وثقافتهم ومع التحديات الاقتصادية ومع تداعيات أي تغيير في مصر على مصالح القوى الإقليمية والدولية ومع الجيش الذي له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالحكم في مصر منذ عقود طويلة؟ وكيف يمكن تنظيم علاقة الدين بالدولة؟ وغير ذلك من أسئلة تعاملت معها كل القوى السياسية باستخفاف شديد أو بلا أدنى قدر من العلم والحكمة.
بعد 3 يوليو لا تزال هذه القوى أسيرة قناعاتها الضيقة، ولم تفكر في هذه الأسئلة، ولم تمتلك رؤية محددة للتعامل مع خصوم ثورة يناير، فهناك فريق يتحدث عن التغيير الثوري الكامل دون أن يمتلك أدواته؟ وهناك فريق آخر لا يزال يتحدث عن التغيير من داخل النظام دون أن يدرك أن النظام الآن أسوأ بكثير من نظام مبارك السلطوي الذي لم تصلح معه في الأساس دعوات الإصلاح من الداخل؟
ولم تصل هذه القوى إلى قناعة العمل المشترك ضد مخططات هؤلاء الخصوم. ولا تزال الخصومات بين المحسوبين على ثورة يناير أكبر من الخصومة التي بينهم جميعا وبين الثورة المضادة.
***
قبل 3 يوليو كان كل طرف يعتقد أن بإمكانه هو فقط حماية الثورة وإعادة بناء مصر دون أن يحتاج إلى الآخر. استخف الجميع بأبجديات السياسة في القيادة وبناء التحالفات وفي وضع الرؤى والإستراتيجيات. وكان داخل كل طرف أطراف متعددة، فلم يكن الإسلاميون على قلب رجل واحد وإنما كانوا قبائل متفرقة ومتنافسة، ولم يكن التيار المدني تيارا وإنما كان في واقع الأمر مجموعة من النخب والشخصيات العامة المتفرقة والمتنافسة أيضا.
بعد 3 يوليو استمرأ الجميع الصراع الصفري الذي رسمه لهم خصوم الثورة ظنا منهم أن ما حدث هو نهاية التاريخ وأنه سيكون هناك انتصار حتمي لطرف واحد في تناقض تام مع سنن التاريخ وأبجديات السياسة المعاصرة. بل وتورط الكثيرون في تبرر قتل الخصوم السياسيين والتنكيل بهم ظنا منهم أن الساحة ستخلو لهم.
***
قبل 3 يوليو لم يظن المجلس العسكري الذي عينه مبارك أن الثورة مجرد هوجة وأنها خطر على الدولة فقط وإنما رأي أيضا أنها تمثل خطرا على مصالح قوى الدولة العميقة وعلى حلفاء مصر الإقليميين والدوليين، وكأن هذه المصالح مقدسات لا يجب المساس بها كما يتصور ضيقو الأفق.
وقبل 3 يوليو حكم المجلس العسكري البلاد وكانت أمامه فرصة للمساهمة في بناء دولة عصرية قوية بمؤسساته الديمقراطية القائمة على حكم القانون وبجيشها المهني المحترف في الآن نفسه، لكنه أهدرها لصالح الإبقاء على دولة الفساد والمحسوبية والاستثناءات. كما لعب على كل الأطراف زارعا بينهم كل عوامل الفرقة والشقاق ثم فرض دستورا السيادة العليا فيه للجيش وليس للشعب لينتهي الأمر بهدم المسار الانتقالي كله بشكل دموي إذ تم قتل الآلاف من الأبرياء في مذابح لم تشهد مصر لها مثيلا من قبل بخلاف اعتقال وتشريد عشرات الآلاف.
بعد 3 يوليو استمر المجلس العسكري في الحكم زاجا بالجيش في الصراع السياسي بعد أن صدّر واجه مدنية انتهت بتتويج رئيس المجلس رئيسا لمصر بعد انتخابات غير ديمقراطية ووسط خطاب إعلامي يروج للمغالطات التي انطلت على البعض داخل التيارات المدنية ظنا منهم أن السلطة ستقدم لهم على طبق من ذهب بعد التخلص من الإسلاميين.
لكن كانت النتيجة المنطقية لنظام ما بعد 3 يوليو هو تقسيم المجتمع والتفريط في الأرض والمياه والفشل في الاقتصاد والأمن والتعليم والسياحة، فضلا عن إظهار أسوأ ما فينا وتصديره للناس على أنه يمثل المصريين وبهدف خبيث هو قتل الأمل والترويج بأنه لا يمكن إصلاح أحوال المصريين الذين يعيشون في "شبه دولة".
***
وأخيرا قبل 3 يوليو لم تدرك القوى السياسية الإسلامية والمدنية عواقب مواقفها خارجيا. لقد أسهمت هذه القوى بلا وعي في إجهاض ثورات العرب وساهمت في تحويل نضال الشعوب العربية من أجل الكرامة والعدالة والحرية إلى حروب مدمرة أرادها الآخرين حروبا ضد الإرهاب أو حروبا طائفية مدمرة.
اليوم وبعد ثلاث سنوات من هذا التاريخ المشؤوم على كافة هذه القوى إدراك مخاطر الإستمرار في تجاهل استخفافها بتداعيات قراءاتها الضيقة للواقع المصري ومواقفها السياسية قصيرة النظر إن أرادت فعلا المساهمة في إنقاذ البلاد من مصير مدمر.
لم يكن ذلك المسار حتميا، فلولا ضيق أفق النخب السياسية وتسييس الجيش (إنْ بالتفاهم المنفرد معه أو باستدعائه لحسم الخلافات مع الخصوم السياسيين) لما أمكن لقوى الثورة المضادة السيطرة، والمساحة التي وفرتها انقسامات السياسيين وتسابقهم على غنائم معركة لم تنته بعد تم احتلالها من قبل قوى الثورة المضادة بعد أن وجدت لها حلفاء داخل الجيش وحلفاء إقليميين ودوليين. لا فراغ في عالم السياسة، وهناك مقدمات تؤدي في معظم الحالات إلى نتائج متوقعة.
هذه التدوينة نشرت على موقع البديل للاطلاع على النسخة الأصلية اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.