أطمئن نفسي بأنّ علاقاتي بالناس لا تقتصر على مَن هو مثلي فقط، فمن لا يتعامل إلا مع أشباهه تظل حدوده ضيّقة وقدرته على الإنصاف عاجزة، فكانت آخر جمعة في رمضان اختباراً جديداً لهذا المبدأ الذي أدّعيه، آخر جمعة في رمضان هي يوم القدس، سمعت هتافات قويّة بجانب سوق تجاريّة بكاليفورنيا تقول: Free Free Palestine حرّروا حرّروا فلسطين!
فلسطين، تلك المنطقة العزيزة على كل مسلم يعتز بإسلامه وعلى كل عربيّ يثّمّن عروبته كان لا بد أن تستوقفني، لكن بمجرد اقترابي لفت انتباهي أنّ المتظاهرين شيعة على الأقل في المجموع، وأنّ بينهم اثنين من أحبار اليهود بزيّهم الأسود وشعورهم المسدلة من تحت الطاقيّة.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أتحدث فيها مع شيعة أو يهود، بل أنا على علاقة جيدة ببعضهم كجيران أو كأولياء أمور لرفقاء أولادي، لكنّني في وقتها أدركت أنّها المرة الأولى التي أكون فيها أقليّة مطلقة كسنيّة حتى النخاع، فبدأت أستأذنهم في بعض الأسئلة لعلّي أفيد بها قرائي، فردد كل على حدة أنّهم يتظاهرون ليس فقط لفلسطين، ولكن للمظلومين في كل مكان بغض النظر عن خلفيتهم.
بالطبع هم يشعرون بتعاطف مع جنسيات بعينها لا تجد لقضيتها صدى في مظاهرات السُّنة، مثل اليمن والبحرين، وبالطبع هناك دول لم أرَها على اللافتات أو أسمعها في كلامهم كالعراق وسوريا، لكنّ هناك شعوراً عاماً بأن الظلم عمّنا جميعاً، وأنّه لا بد من وقفة إنصاف ويمكننا البدء بالمشترك بيننا في قضية نشترك فيها جميعاً ونجتمع عليها جميعاً وهي فلسطين، فلو حلت تلك القضية كما خطب إمامهم فحل كل القضايا ممكن.
وفي حين كان المتظاهرون يلزمون الرصيف وقفت سيارة في شارة المرور الملاصقة وكان بها اثنان يبدو أنّه ابن مع أبيه ويبدو من ملامحهما أنّهما من الآسيويين الأميركيين وبدآ بسب كل المسلمين بأقبح الألفاظ، ثمّ ألقى الشاب علبة مشروب معدنيّة على إحدى المتظاهرات ولم يوقفه غلّه عند هذا الحد، بل طال أول شيء بجانبه وكان بضع عملات معدنيّة وألقاها أيضاً، وظلّ يبحث في سيارته عن شيء آخر يلقيه فما إن تحول لون الإشارة إلى الأخضر حتى ألقى كرة بيسبول قبل أن يغور بعيداً، كرة البيسبول هي كرة صغيرة لكنّها جامدة تؤذي وقد أصابت متظاهراً آخر.
علمت خلال حواراتي أنّ منظمي المظاهرة اتصلوا بست قنوات تليفزيونيّة وإذاعيّة فاعتذرت جميعاً عن الحضور، وسألوني مراراً هل سينشر هذا الكلام؟ فقلت إنّي سأرسله لتكتمل الصورة لدى القراء، فالصحف القيّمة تنقل الصور على اختلافها والصحفيّ الجيّد هو الذي يوصل صوت الناس وعلى القارئ تقرير رأيه بهذا التوازن.
لكن أفضل مفاجأة ظهرت في حواري مع الحبر اليهوديّ، سألت أولهما فاعتذر لعدم تمكنه من الإنجليزيّة فهما يتحدثان اللغة اليديشيّة وهي لغة يهوديّة قديمة كان يستخدمها اليهود في وسط وشرق أوروبا قبل الهولوكوست، أما العبريّة الحديثة فيترفعون عنها والسبب كما أورده الحبر يوئل لوب Yoel Loeb هو أنّها ارتبطت بقيام دولة إسرائيل فنزعوا عنها قدسيتها بذلك واحتكروها لمشروعهم.
والحبر يوئل ينتمي إلى نيتوري كارتا وهم من أشد اليهود عداء للقمع الصهيوني بل ولوجود دولة إسرائيل، فهم في ذلك مثل المسلمين الذين يرفضون أن تتصدر داعش المشهد الإسلامي، وتتحدث باسم الإسلام، بل ينادون بتحرير القدس وردها إلى المسلمين، فكان لا بد أن أسأله هذا السؤال: ماذا تقول للمسلمين الذين لا يقفون مع فلسطين ومع حقها في أرضها؟ فقال: لا بد أن أحترم الجميع، لكن إن كانوا يفعلون ذلك لقوة الصهيونية الحاليّة فلا بد أن يعلموا أنّ قوتها إلى زوال؛ لأنّهم يخالفون أوامر الرب.
عجباً لأمرك يا فلسطين، فإنّكِ جمعتِ منصفي الأقطاب على عدالة قضيتك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.