أذهلني رد فعل عدد كبير من البريطانيين المطالبين بإعادة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في رد فعل يشي بوقع الصدمة للنتيجة غير المتوقعة. من حقك أن يكون لك رأيك، وأن تدافع عنه كما تشاء، من حقك أن تروج له بكل الوسائل المتاحة قبل التصويت، لكن ليس من حقك أبداً أن تطالب بإلغاء نتيجة تصويت سليم وتطالب بإعادته لأن النتيجة لم تأتِ على هواك، متذرعاً بأنك "الأكثر" ذكاءً وحكمة أو وطنية أو أن رأيك هو الأصوب، أو أن الآخر "متطرف" أو "أحمق".. إلخ، فكل تلك الأحكام هي وجهة نظرك لا أكثر.
لماذا يهتم الناس "بحقوقهم" ولا يسلمون لغيرهم بنفس "الحق"؟ لماذا لا يشغل "الواجب" نفس درجة الأهمية التي يشغلها "الحق"؟! من حقك أن تصوّت كيفما شئت ومن واجبك أن تحترم اختيار الأغلبية وإن لم تتفق معهم، فتلك قواعد الديمقراطية التي باحترامها نحترم أصواتنا جميعنا ونجعل لها قيمة، وغير ذلك هراء!
لا أعرف كيف يقترح عدد كبير ممن عاشوا عمرهم كله في ظل ديمقراطية مستقرة أن تتجاهل الحكومة النتيجة وتعيد الاستفتاء؟! وماذا لو فازوا هم في الإعادة ألا يحق للجانب الآخر طلب إعادته مرة ثالثة، وهلم جرا؟! ما قيمة الاستفتاء والتصويت وصوّت المواطن إذا لم تحترم النتيجة أياً كانت؟
نعم نتيجة الاستفتاء تصب في مصلحة اليمين المتطرف، لكن ليس كل من صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي متطرفون، ولا يجب أن تتم الإشارة إليهم ككتلة واحدة ننعتها بالعنصرية والتطرف والانغلاق بهذه البساطة.
ليس صحيحاً أن أغلب البريطانيين عنصريون أبداً، فالتنوع الذي نراه في شوارعها ينفي ذلك، عقود طويلة تشهد بذلك، ألم ينتخب أهل لندن من أسابيع قليلة "صادق خان" المحامي المسلم ابن الأسرة الباكستانية المهاجرة كعمدة للمدينة؟ كيف يتسق ذلك وما انفجرت به تحليلاتنا عن نتيجة استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي؟
وعن تجربتي كامرأة مسلمة ومحجبة فبريطانيا أكثر دولة غربية شعرت فيها بالأمان والقبول، وشعبها من أكثر الشعوب تقبلاً للاختلاف، ولا أتصور أن يتغيروا من النقيض إلى النقيض، بين ليلة وضحاها! من المتوقع بعد هذه النتيجة سيزداد تسليط الضوء على حوادث بعينها ولأهداف مختلفة لكنها في النهاية تعمق هوة الخلاف والاستقطاب. صناعة الإعلام صناعة تعتمد على الإثارة والتلاعب بالمشاعر والضغط على الأعصاب لجذب الانتباه بأي ثمن! دأب الإعلام على أن يسلط الضوء على كل ما هو سلبي وشاذ ونادر وليس العكس، وأتذكر عبارة شهيرة تلخص كيف تدار هذه الصناعة: "إذا عض الكلب رجلاً فلا شيء يستحق الذكر، أما إذا عض الرجل كلباً فذلك (خبر) يستحق تسليط الضوء عليه".
مع كل خلاف تستعر حمى الاستقطاب ويجني الإعلام الأرباح من تصعيد الخلافات إلى صراعات، يتم التلاعب بمخاوفنا ووضعها تحت العدسة المكبرة ويتم تسليط الضوء على مصالحنا المهددة وتضخيم التهديدات، ويزداد تأويل الأمور لا بعين العقل والمنطق، لكن بعين الخوف المستعر، والمصالح المهددة، فتزداد الهوة بدلاً من أن تتقلص، وفي ذلك ما يخدم فعلياً أجندات المتطرفين من الجانبين!
لماذا يتم إلقاء الضوء على معلومة أن كبار السن هم الأغلبية ممن صوَّتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي بمعزل عن معلومة أخرى وهي أنهم أنفسهم من صوَّتوا في شبابهم للبقاء في الاتحاد الأوروبي في منتصف السبعينات بنسبة تعدَّت الـ65%؟!
ألا يطرح وضع المعلومتين جنباً إلى جنب تفسيراً له وجهاته، بأن تصويت اليوم هو من وجهة نظر الكثيرين تصويت تصحيحي، قام به من تعشموا في الكثير بالدخول في الاتحاد الأوروبي ثم عانوا الخذلان.
لقد أخفقت الحكومة البريطانية وأخفق الاتحاد الأوروبي في أن يحقق طموحات الكثير من مواطنيه، وانتهجوا سياسات خلقت الكثير من التذمر المستحق والمرارة المبررة، سياسات مالية تصب في مصلحة الأغنياء بالدرجة الأولى، وتهمل من دونهم.
ألا يمكن أن ننظر لمن صوَّتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي بأنهم صوَّتوا "للتغيير" ورسالتهم ببساطة فاض الكيل من الوضع الحالي وحان أوان أن ننتهج سياسات مختلفة؟ أليس من حقهم أن يطمحوا لتغيير أوضاع يتضررون منها ويسعون لتغييرها بوسيلة سلمية وديمقراطية؟! لماذا نصور الأمر تصويراً درامياً قاصراً يجرد وجهة نظرهم من المنطق ويتهمهم بأنهم يهدمون المستقبل على رأس الشباب؟ ونتجاهل أن من وجهة نظرهم يحاولون تصحيح خطأ ارتكبوه، يحاولون ببساطة أن يغيروا الواقع بأفضل منه بالطريقة التي تحقق ذلك كما يتصورون.
معلومة أخرى تصاغ بطريقة تربط درجة "الرقي والتعليم" بالنتيجة فيقال الأماكن الراقية كلندن صوَّتت بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، بينما صوتت الأماكن الأقل رقياً والأقل في المستوى التعليمي بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
لماذا لا نكون أكثر موضوعية وإنسانية وننظر لأعمق من الظاهر ونمتنع عن إطلاق الأحكام المهينة التي تزيد الفجوة، فنقول إن المناطق "الغنية، المرفهة، التي يقطنها علية القوم الأقل معاناة" صوَّتوا ببقاء الحال كما هو عليه؛ لأنهم الأقل تضرراً منه، بينما صوت الأفقر والأقل حظاً والأكثر معاناة لحلم "التغيير" أو ما تصوروا أنه سيجلب التغيير ويحسن أوضاعهم؟!
ألا تساهم تلك الرؤية المتفهمة لوجهة نظر قطاع كبير ممن صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي في خلق مساحة مشتركة إنسانية يمكن أن تجمع قطاعاً كبيراً من الفريقين حول أهداف مشتركة وتقلل من لهجة التعالي والتسفيه التي تدفع كل من صوَّت بالخروج إلي التمترس مع "المتطرفين" فكرياً تحت لواء واحد فيصبح المتذمرون من النتيجة كالأحمق الذي يطلق النار على قدمه؟!!
حقيقةً تصدرت الأحزاب اليمينية المتطرفة الدعوة للخروج من الاتحاد الأوروبي، لكن من الخير أن يفيق من صوتوا للبقاء لحقيقة أخرى وهى أن ليس كل من صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي يمينيون متطرفون، وعليهم أن يغيروا لهجتهم ويتجنبوا التصنيف المخل ويؤكدوا ذلك سريعاً. عليهم أن يستغلوا تراجع من روَّجوا معلومات كاذبة عن كم الأموال التي سيتم توفيرها بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإعادة توجيهها للخدمات الصحية وغيرها وحقيقة أن سياسات الهجرة لن تتغير كثيراً بعد الخروج، هذه أمور يجب ألا تمر مرور الكرام، وهي فرصة لا يجب تفويتها لتحجيم اليمين المتطرف وهدم مصداقيته بدلاً من معايرة من خدعوا، أو الانشغال بحلول وهمية غير منطقية تهدم قيم الديمقراطية كفكرة إعادة الاستفتاء!
كذلك يجب الانتباه لحقيقة مهمة وهي أن مَن دعوا للخروج لم يطرحوا تصوراً بديلاً لما سيكون عليه الحال بعده، فالتصويت كان بمثابة "نرفض البقاء في الاتحاد الأوروبي" لا أكثر! لم تطرح خطة واضحة عن كيف سيكون شكل بريطانيا بعد الخروج.
الفرصة ما زالت متاحة لأن يشارك "الجميع" في وضع هذا الشكل الجديد بما يعالج مخاوف "الكل"، ولا سبيل لذلك إلا بالعمل على "تفهم" كل وجهات النظر وأخذها بعين الاعتبار والاحترام، والعمل على مستقبل أفضل، ولن يتحقق ذلك بازدراء رأي من يمثلون الأغلبية ولو بهامش بسيط.
على مستوى أوروبا من الوارد أن يكون هذا القرار الذي لا نرى فيه سوى نذير انهيار ونهاية الاتحاد الأوروبي سبباً في مراجعة سياساته غير العادلة، واتخاذه إجراءات تصحيحية حتى تمنع خروج المزيد من الدول من عضويته. فتذمر المواطن الأوروبي من سياسات الاتحاد ليس جديداً ولم يكن خفياً ولا يقتصر على بريطانيا، وقد تم تجاهل هذا التذمر طويلاً حتى حدث ما لم يتوقعه الكثيرون وخرجت بريطانيا من الاتحاد، لتفتح بذلك الباب أمام احتمالات انهيار الاتحاد الأوروبي وتفككه بخروج دول أخرى.
والخطوات التصحيحية المطلوبة قطعاً تتخطى مراجعة المادة 50 التي يدور الآن حولها جدل "قانوني فقهي"، وهي المادة التي تمنح الدول الأعضاء حق الخروج من الاتحاد الأوروبي وتنظم طريقة الخروج والعلاقة بالاتحاد الأوروبي بعدها.
الأهم من السعي الحثيث لإلغاء المادة 50 أو إيجاد تفسيرات لها تقيد الخروج من الاتحاد الأوروبي هو السعي لحل أسباب شعور قطاع كبير من الشعوب الأوروبية بأن مصالحهم مهملة، وأن الاتحاد لا يهتم بالنمو الاقتصادي للدول الأعضاء وخلق وظائف للقضاء على البطالة أكثر مما يهتم بتسويات الديون بفرض إجراءات تقشف أصبحت تمثل تهديداً.
أما عما يخصنا فللقرار آثاره الاقتصادية والسياسية التي أتركها للمتخصصين في هذه المجالات ليحللوها ويفتونا بما يجب علينا أو على الحكومات تحديداً فعله. وأقتصر هنا على ما أعرفه من واقع خبرتي العملية في مجال التواصل والحوار بين الثقافات المختلفة التي من أبرز تطبيقاتها العمل على اندماج المهاجرين في المجتمعات الحاضنة لهم، من المتوقع أن يكون للقرار آثاره السيئة على قبول المهاجرين واللاجئين والمسلمين بصفة خاصة في ظل ارتفاع لهجة العداء.
من المصلحة أن يعي المهاجرون والمتضررون كل ما عرضته أعلاه وأن يتذكروا أن ليس كل من صوَّت للخروج بالضرورة يؤيد التخلص من اللاجئين أو المهاجرين، وأن هناك بين من صوتوا للبقاء عنصريين، فلا يجب أن نصنف من صوتوا للخروج بأنهم "أعداؤنا" أو نختزل أسبابهم في أنهم جهلة أو عنصريون.
علينا أن نكون أكثر موضوعية ونعترف أن من لديهم مخاوف من تزايد أعداد اللاجئين والمهاجرين هم أصحاب مخاوف مشروعة وعلينا احترامها وإن تعارضت مع مصالحنا، ولا ننكر عليهم حقهم في أن تناقش الحكومة مخاوفهم وتتخذ من التدابير ما يخفف منها ويقدم لهم حلولاً، ولا يجوز أبداً إهمال وجهات نظرهم أو التقليل من وجاهتها.
علينا أن نكون عادلين ونكف عن التصنيف المُخل "لنحن" و"هم" فقد عانينا الأمرَّين من هذا التصنيف على كل المستويات، عانينا من التحليلات السطحية، والشيطنة التي دأبت على استغلال أصغر الشرر من مخاوف الناس لتنفخ فيها وتصنع من الحبة قبّة، كما يقولون، عانينا من الهواجس التي تقدم لنا وكأنها حقائق، والتصنيفات الهشة التي تختزل ألوان الدنيا كلها في لونين فقط هما أبيض أو أسود.
حان الوقت لندرك أنه لا منطق في افتراض أنك إما معي وإما عدوي ولا توجد احتمالات أخرى. المجتمعات السوية تقوم على التفاهم والتوافق، وعلى المؤمنين بـ"نحن" العابرة للخلاف أن يرفعوا أصواتهم وأن يجمعوا الشاردين من الجانبين، أولئك المؤمنون بأن اختياراتهم ليست مقصورة على الأبيض أو الأسود، ويميزون تنوع الألوان، عليهم أن يصمدوا ويتمسكوا بتعدد الألوان وأن يكونوا حلقة الوصل بين أطياف المجتمع التي تشد أواصره فلا يتفكك وتنفصم عراه.
في كل أزمة فرصة، وفي كل محنة منحة، وعلى العرب والمسلمين المقيمين في بريطانيا أن يثبتوا أنفسهم كجزء فاعل من المجتمع البريطاني ولا يسمحوا أن يتم اختزالهم ووضعهم موضع المدافع عن نفسه أو المنزوي أو المستهدف أو الضحية. في مثل تلك الظروف حيث الأسئلة مطروحة بقوة، والهوية محل نقاش، عليهم ألا يقعوا في فخ التمترس وراء عناوين توضع لهم وأدوار ترسم وسيناريوهات ينفذونها دون تفكير، التغيير دائماً مؤلم وله ثمن، وعليهم المساهمة في أن يكون التغيير القادم إيجابي، وألا ينكصوا عن المشاركة وألا يقبلوا تهميشهم بالوقوع في فخ "نحن" و"هم"، وأن يكونوا موضوعيين وعقلانيين في تفسيراتهم وآرائهم.
الخوف من الهزيمة هزيمة، فلا تخف وكن على قدر اللحظة واقبل التحدي، قم بواجبك كعضو فاعل ومشارك في المجتمع واجتهد على قدر طاقتك، فليس مطلوباً منك أكثر من ذلك.
وكلمة أخيرة: ما يحدث في بريطانيا جدير بالتأمل والتفكير ولا يجب أن يقتصر تعاملنا معه على تدعيم "نظرياتنا" عن صراع الشباب والعجائز مثلاً، أو الشماتة في تفكك أوروبا "الكافرة"، أو الولولة وتعظيم مشاعر الخوف من التغيير، متجاهلين أن كل تغيير تصحبه مخاوف لطرف ما!
البعيد عن بؤرة الصراع من المفترض أن يرى الأمور بصورة أوضح خالية من الضغوط النفسية التي تؤثر على مَن يمسهم الأمر بصورة مباشرة، فلنحاول أن ننظر إلى ما يحدث بعين الموضوعية، ربما تعلمنا شيئاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.