أثارت الكلمات التي ترافع بها المستشار رفيق عمر الشريف، نائب رئيس هيئة قضايا الدولة، الذي وكَّله كل من (عبدالفتاح السيسي رأس السلطة العسكرية، وشريف إسماعيل رئيس الوزراء، وعلي عبد العال رئيس البرلمان، وصدقي صبحي وزير الدفاع، وسامح شكري وزير الخارجية، ومجدي عبدالغفار وزير الداخلية.. مجتمعين)، أمام المحكمة الإدارية العليا في الطعن المقدم منهم "مجتمعين" ضد حكم محكمة القضاء الإداري بمصرية جزيرتَي صنافير وتيران وبطلان التفريط فيهما من قِبل السلطة العسكرية، أثارت الكثير من ردود الفعل الغاضبة والرافضة والمستهجنة لما قاله نائب رئيس هيئة قضايا الدولة الذي وصف مصر بـ"دولة الاحتلال"، وقال إنها كانت "تحتل جزيرتَي صنافير وتيران السعوديتين"، بحسب قوله.
وهنا لزم التنويه بأنه لم يحدث في التاريخ أن أطلقت دولة على نفسها لقب "دولة احتلال"، فأي دولة قامت باحتلال دولة أخرى أو عدة دول كانت تُطلق التبريرات المختلفة التي تبرر وجودها في هذه الدولة، مثل حماية المصالح، أو حماية الرعايا، وغير ذلك من التبريرات التي لا تشوِّه صورتها أمام العالم وأمام مجتمعاتها، كما فعلت بريطانيا عند احتلالها مصر، وكما يفعل الكيان الصهيوني المُحتل لأرض فلسطين منذ عام 1948، لم يُطلق على نفسه أبداً دولة احتلال، رغم احتلاله لفلسطين وتشريده لأهلها وجرائمه بحقهم.
فنحن إذاً أمام واقعة تاريخية غير مسبوقة لم تحدث في التاريخ القديم أو الحديث، أن تُطلق دولة على نفسها اسم (دولة احتلال) لدولة أخرى، فما بالك إذا كانت هذه الدولة تتهم نفسها باحتلال أرضها المملوكة لها تاريخياً بل وتطعن على حكم ضد التفريط في أرضها، فهذا أمر من المضحكات المبكيات في نفس الوقت، مما دفع الموجودين في قاعة المحكمة للهتاف: (خائن.. خائن) و(عيش.. حرية.. الجزر دي مصرية) و(بالطول بالعرض.. إحنا أصحاب الأرض).
وهذا لا شك يجعلنا نفكر ملياً في دور الحكم العسكري المسيطر على حكم مصر منذ عام 1952 إلى الآن في الحفاظ علي أرض وحدود مصر منذ ذلك التاريخ إلى الآن؛ لأن اللافتة العريضة التي كانت ولا يزال هذا الحكم العسكري يبرر بها وجوده وانتهاكاته بحق هذا الشعب وتدميره لمقدراته وللديمقراطية منذ عام 1952 إلى الآن هي الحفاظ على الأمن القومي وحماية أرض مصر من الأخطار التي تتهددها في الداخل والخارج.. فهل تحقق ذلك فعلاً؟
من البديهيات في كل الدساتير أن مهمة الجيوش هي حماية أرض وحدود وسماء الأوطان، وعدم التفريط في أي ذرة من تراب الوطن، هذه هي مهمة الجيوش.
تسلَّم العسكر حكم مصر بعد انقلاب عسكري على الملك فاروق (ملك مصر والسودان)، (ملك وادي النيل)، في 23 يوليو/تموز عام 1952، وكانت غزة وسيناء والسودان كاملة إلى أعالي النيل تحت السيادة المصرية، فماذا حدث؟
تاريخياً كان الشعبان المصري والسوداني يؤمنان بأنهما شعب واحد ونسيج مترابط بينهما النيل والحضارة واللغة والدين والتاريخ، وكان هذا الإيمان يدفع الشعب السوداني دائماً إلى الثورة على الاحتلال البريطاني، مطالبين بعودة الوحدة كاملة مع مصر بعيداً عن الحكم الثنائي الذي فرضته بريطانيا عام 1899 على السودان، وبسبب السودان تعثرت جميع المفاوضات التي جرت بين مصر وبريطانيا منذ عام 1924؛ حيث كانت بريطانيا تتمسك دائماً باستمرار الحكم الثنائي (مصر – بريطانيا) في السودان، الذي كان محل رفض المصريين جميعاً حكومة وشعباً.. وكان الملك فاروق قد رفض أي مفاوضات حول السودان وأوقفها نهائياً مع بريطانيا، وأضاف لنفسه لقباً جديداً غير ملك مصر والسودان "بأن أطلق على نفسه لقب (ملك وادي النيل) في إشارة واضحة لوحدة البلدين ومصيرهما المشترك.
وجاء عبدالناصر ومَن معه مِن العسكر؛ ليتنصلوا من كل ذلك، فأعادوا المفاوضات مع بريطانيا بشأن السودان مرة أخرى، وتعامل العسكر مع السودان تعاملاً سيئاً، وما فعله صلاح سالم، مبعوث جمال عبدالناصر، خير دليل على ذلك؛ حيث ألب قبائل الجنوب عن طريق الرشاوى، ورقص عارياً في أحد محافلهم في فضيحة مدوية، أطلقت عليه وقتها صحف العالم (الجنرال العاري)، وأسفر كل ذلك عن انفصال السودان عن مصر نهائياً في يناير/كانون الثاني عام 1956 وكانت هذه أولى الثمرات المُرة للحكم العسكري الذي ملأ الدنيا ضجيجاً بشعارات حماية الأرض والعرض (التفريط في السودان كاملة فأصبحت مصر منذ عام 1956 بدون السودان عمقها الاستراتيجي الأهم).
ثم تسبب العسكر بعد ذلك في نكبة 1967 التي احتُلت على أثرها أربع دول عربية؛ لتضيع معها غزة وسيناء، فأصبحت مصر بدون غزة وبدون سيناء، وخاضت مصر حرب العاشر من رمضان عام 1973 لتحرر جزءاً من سيناء بدماء أبنائها الأطهار، ثم يواصل الحكم العسكري بعد ذلك مفاوضاته مع الصهاينة، ويُوقع معاهدة كامب ديفيد لتعود سيناء، ولكن بشروط جعلت سيطرة مصر على سيناء ضعيفة فلا تنمية ولا جيش يهدد أمن الكيان الصهيوني، وفقدت مصر غزة إلى الأبد.
وبعد الانقلاب العسكري على الحكم المدني في 3 يوليو 2013، قام الجيش المصري بنفسه، وليس الصهاينة، بشن حرب شعواء على أهالي سيناء من أجل إفراغها من سكانها لمصلحة الصهاينة، بل وتحدث الإعلام الصهيوني عن عرض عبدالفتاح السيسي على نتنياهو إعطاءه 1600 كم من شمال سيناء لتوطين الفلسطينيين بها، ولم يكذب الحكم العسكري في مصر هذه الأخبار.
وقام العسكر بالتفريط في ثروات مصر في غاز شرق المتوسط بالتوقيع على إتفاقية الكالاماتا مع قبرص واليونان في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 بل وإعادة ترسيم الحدود البحرية مع الصهاينة، وقام العسكر بالتفريط في جزيرتَي تيران وصنافير الاستراتيجيتين والمصريتين منذ القدم، بحسب كل المواثيق والخرائط، عند مدخل خليج العقبة، لمصلحة السعودية، لأنه يخدم مصلحة الكيان الصهيوني الغاصب بلا أدنى شك، مما يثبت بالدليل والبرهان أن الجيش المصري ومنذ استيلائه على السلطة عام 1952 لم يحافظ على أرض مصر ولا حدودها ولا سيادتها بشكل صارخ وفاضح مهما تستر العسكر وراء شعارات الوطنية والأمن القومي والحفاظ على الأرض، فالواقع يكذب كل ذلك ويدحضه..
فرَّط العسكر في السودان وسيناء وغزة وصنافير وتيران ولا أحد يعلم ما الذي يمكن أن يفرط فيه العسكر بعد ذلك لو استمروا فترة أطول.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.