أصبحت بريطانيا في عام 1973 عضواً في الاتحاد الأوروبي (EU)، الذي تأسس بناءً على اتفاقية "ماستريخت" في عام 1991، كتطور لعملية التكامل الأوروبي التي بدأت منذ عام 1948 بما كان يُعرف باسم دول البنولوكس (Benelux) كاتفاقية اتحاد جمركي بين بلجيكا، ولوكسمبورغ، وهولندا، تبعها إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب (ECSC) في عام 1951 بين هذه الدول وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وفي عام 1957 جاءت الخطوة الحقيقية الثالثة نحو التكامل الأوروبي بإنشاء الجماعة الاقتصادية الأوروبية (EEC) والجماعة الأوروبية للطاقة النووية (EAEC) في نفس العام، ومنذ عام 1967 تعمل هذه المجموعات تحت إشراف ما بات يعرف باسم الجماعة الأوروبية (EC) كجهاز سياسي يشرف على اتخاذ القرارات الاقتصادية لهذه الجماعات، تلك العملية التي نمت وتطورت في عملية التكامل الأوروبي، مما أصبح يعرف اليوم بالاتحاد الأوروبي (EU) الذي يتكون من 28 دولة.
منذ أربعين عاماً (في عام 1975) صوَّت الشعب البريطاني، في استفتاء عام، بأغلبية الثلثين لمصلحة البقاء فيما كان يسمى بالجماعة الأوروبية آنذاك، ولأول مرة منذ ذلك العام أصبحت فكرة خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي احتمالاً قائماً وتحدياً عميقاً لعملية الاندماج الأوروبي. فقد أوضح آخر استطلاع للرأي في 2015 أن أغلبية البريطانيين (51%) ولأول مرة يفضلون الخروج من الاتحاد الأوروبي مقابل (49%) يفضلون البقاء في الاتحاد الأوروبي، وقد كان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أكد استعداد حزبه -حزب المحافظين- تقديم موعد الاستفتاء على بقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى منتصف 2016 بدلاً من نهاية عام 2017، إذا لم يتوصل إلى اتفاق مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي يضمن تحقيق مصالح بريطانيا.
– لماذا أقدم ديفيد كاميرون على إجراء هذا الاستفتاء؟
تتمتع بريطانيا بوضع مميز داخل الاتحاد الأوروبي، وذلك لثقلها ودورها السياسي والتاريخي في العديد من القضايا، فهناك أربعة استثناءات من قوانين الاتحاد الأوروبي لا تطبق على بريطانيا هي: ميثاق الحقوق الأساسية، والسياسة النقدية والاقتصادية بموجب بروتوكول 25 من اتفاقية ماسترخت، والحرية والأمن والعدالة بموجب بروتوكول 36 من معاهدة لشبونة، والأهم استثناء من بند حرية تنقل الأشخاص في منطقة الشنغن بموجب بروتوكول 19 من معاهدة لشبونة.
وفي 2012 حصلت بريطانيا على العديد من الامتيازات بضغط من ديفيد كاميرون، ومنها إعفاء بريطانيا من الاتفاق المالي الأوروبي بعد اعتراضها على البند الثالث، الذي يتيح للمحكمة الأوروبية صلاحية مراقبة الموازنات المحلية، وفرض عقوبات بمقدار 0.1% من الناتج المحلي على كل دولة ترفض تطبيق قواعد الميزانية المتوازنة.
فلم يكتفِ بكل تلك الامتيازات والاستثناءات، فلجأ لاستخدام كارت العضوية لحسم صراع انتخابي، حينما وعد الناخبين في 2013 بإجراء استفتاء على بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، في حال فوز حزبه في انتخابات 2015 "حضر العفريت".
وعندما فاز الحزب وتورط ديفيد كاميرون بهذا التعهد بدأ سلسلة من الاتصالات مع رئيس المجلس الأوروبي؛ لحصول بريطانيا على وضع أفضل مما هي فيه؛ لكي يقتنع البريطانيون بالبقاء في الاتحاد الأوروبي.
وتحت جدية شبح انسحاب بريطانيا من الاتحاد انصاع الاتحاد في 19 فبراير/شباط 2016 لمطالب ديفيد كاميرون لعل ذلك يسهم في إقناع البريطانيين المطالبين بالانسحاب بالعدول عن رأيهم وقرر أن:
– اليورو ليست العملة الوحيدة في الاتحاد.
– بريطانيا غير ملزمة باندماج سياسي أوروبي أبعد مما يتيحه الوضع القائم.
– تقييد حصول المهاجرين من دول الاتحاد على إعانات اجتماعية خلال الـ4 سنوات الأولى من إقامتهم.
– والأهم من ذلك وهو ما كانت تسعى إليه بريطانيا وبشدة، منح البرلمانات الوطنية مزيداً من السلطة في الاعتراض على تشريعات بروكسل، إذا رفض 55% من أعضاء البرلمانات الوطنية إقرار التشريع.
ولكن يعد ملف هجرة 300 ألف مهاجر من دول شرق أوروبا الفقيرة إلى بريطانيا ومزاحمة المواطنين البريطانيين في الوظائف بعد عملية توسيع الاتحاد بضم 10 دول في الفترة من 2004 إلى 2007 من أكبر وأهم المشاكل التي تؤرق المواطن البريطاني، ولم تفلح معها محاولات ديفيد كاميرون وسياسة التخويف من انسحاب بريطانيا من الاتحاد "ما عرفش يصرف العفريت".
– لماذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟
هناك مجموعة من الأسباب دفعت بريطانيا نحو اتخاذ مثل ذلك القرار هي:
1- تخوفها من سيطرة دول منطقة اليورو الـ(19) على مجريات اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي؛ إذ يؤكد الخبراء أن الاتحاد النقدي الذي رفضت بريطانيا الدخول فيه، أصبح محور اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي، وأصبحت جميع القرارات تتطلب تفاوضاً من قِبل أعضائه في البداية، ثم يتم عرضها بعد اتفاق الأعضاء في منطقة اليورو على دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة.
2- سبب رئيسي آخر، هو الهجرة، تلك المشكلة الأكبر التي تواجه المجتمع البريطاني، فبريطانيا ترى أن قوانين الاتحاد الأوروبي هي السبب في تدفق المهاجرين إليها، هؤلاء الذين أثروا على مستوى المعيشة والنسيج الاجتماعي، وهم يشكلون عبئاً مادياً على الخدمات العامة، كالتعليم والصحة؛ لتبلغ قيمته (3.67) مليار جنيه إسترليني سنوياً، وقد طالبت بريطانيا بوضع آليه للتحكم في حركة المهاجرين الوافدين إليها من بلدان شرق أوروبا الفقيرة، إلا أن مطالبها لم تُنفذ.
3- مخاوف بريطانيا فيما يتعلق بسيادتها من خلال إعطائها حق الخروج من الالتزام الأوروبي التاريخي بتدشين (اتحاد أوروبي أعمق)، فبريطانيا لا تريد أن توقف سعي الدول الأوروبية الأخرى نحو هذا الهدف، ولكنها تريد حق الخروج؛ لأن محكمة العدل الأوروبية كانت قد استخدمت هذ المبدأ في دفع مزيد من الإجراءات التكاملية على غير رغبة بريطانيا.
4- رغبة بريطانيا في إعطاء البرلمانات الوطنية الحق في التجمع معاً، بهدف رفض أي تشريع يصدر على المستوى الأوربي يتعارض مع مصالح الدول القومية.
– ما هي عواقب خروج بريطانيا من الاتحاد؟
1- ستفقد بريطانيا كل امتيازات العضوية الكاملة داخل الاتحاد في حرية دخول البضائع والسلع والخدمات دون تعريفة جمركية، وستفقد كل اتفاقات التبادل التجاري مع 53 دولة كانت ترتبط باتفاقات تجارة مع الاتحاد الأوروبي، بما فيها كندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية والمكسيك، وستكون مضطرة للتفاوض الثنائي مع كل دولة لتحصيل نفس الامتيازات.
2- وفقاً لوزارة الخزانة البريطانية، فإن حصيلة الضرائب ستقل 36 ملياراً إسترلينياً، والناتج القومي الإجمالي سينخفض بنسبة 6٫6% بحلول سنة 2030، في حين أن بريطانيا لو كانت استمرت في الاتحاد، الناتج القومي كان سيرتفع بنسبة تتراوح ما بين 3.4% و4.4% خلال نفس الفترة.
3- ظهور حركات الاستقلال عن المملكة المتحدة بقوة، مثل انفصال اسكتلندا، وانضمام أيرلندا الشمالية للجنوبية واتحادها بعيداً عن المملكة المتحدة، وقد يسهل هذا الاستفتاء إجراء استفتاء مماثل في فرنسا، التي يحظى فيها اليمين المتطرف بشعبية كبيرة، كما يتوقع أن يؤثر خروج بريطانيا من الاتحاد بشكل سلبي على اقتصاديات بعض دول الاتحاد.
4- تكهن هبوط وانهيار الجنيه الإسترليني الذي بدأت مؤشراته بعد نتيجة الاستفتاء مباشرة فوصل في بعض البورصات العالمية لهبوط لم يشهده منذ سنة 1985.
5- استقالة ديفيد كاميرون، المعارض الأكبر للخروج وارتفاع شأن اليمين المتطرف وأنصاره، وعلى رأسهم (بوريس جونسون) العمدة السابق للندن، الذي من الممكن أن نسميه (دونالد ترامب) بريطانيا، وترشحه لرئاسة الوزراء.
أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي:
1- فقدان الفكرة الأوروبية بأحلام الفيدرالية والجيش الموحد جاذبيتها.
2- التأكيد على هشاشة المشروع سياسي للاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمات: فمليون لاجئ كلفوا القارة انقساماً غير مسبوق، وحدوداً مغلقة، وتكتلات في مواجهة أخرى، وصعوداً غير مسبوق لليمين المتطرف، وعجزاً عن تنسيق آلية مواجهة مشتركة، وجاءت أزمة الاستفتاء البريطاني لتؤكد هشاشته.
3- انتشار العدوى: قد تخرج العديد من الدول لتقليد النموذج البريطاني في الاستقواء بالناخب المحلي في مقابل سلطة بروكسل، من أولها دول وسط وشرق أوروبا المتضررة من الإملاءات الأوروبية بخصوص أزمة اللاجئين، ودول جنوب أوروبا المتحفظة على سياسات التقشف.
– ما هي السيناريوهات المتوقعة التي ممن الممكن أن تلجأ إليها بريطانيا للاستفادة من الاتحاد الأوروبي اقتصادياً؟
1- يتمثل السيناريو الأول فيما يعرف بالنموذج النرويجي، نموذج المنطقة الاقتصادية EEC: وهو أن تترك بريطانيا الاتحاد الأوروبي وتنضم إلى المنطقة الاقتصادية الأوروبية، وهو ما يعطيها حق الدخول إلى السوق الأوروبية الموحدة مع إمكانية الدخول إلى بعض الخدمات المالية، ولكن مع تحريرها من قواعد الاتحاد الأوروبي الخاصة بالزراعة، ومسائل العدالة، والشؤون الداخلية.
2- بينما يتمثل السيناريو الثاني فيما يعرف بالنموذج السويسري نموذج الاتفاقات الثنائية Bilateral Accords: وهو أن تقلد بريطانيا سويسرا، التي ليست دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي، ولكنها تتفاوض معه على اتفاقيات تجارية على أساس قطاع بقطاع من خلال اتفاقيات ثنائية متعددة.
3- في حين يعرف السيناريو الثالث والأخير بالنموذج التركي: وذلك بأن تبرم بريطانيا اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، بحيث يتم إعفاء بريطانيا من حرية حركة المواطنين ولكن في المقابل سيفقد البريطانيون حقهم في الحركة داخل الاتحاد الأوروبي، وتصبح ترتيبات وجود نحو مليونَي مواطن بريطاني يعيشون في دول الاتحاد الأوروبي غير معلومة وغير محددة.
– ولكن من الناحية العملية يستحيل تطبيق هذه السيناريوهات لخصوصية حالة بريطانيا ولكثير من الأسباب أوردتها وزارة الخزانة العامة؛ لذلك ستصبح بريطانيا مضطرة للتفاوض على شروط خاصة بها، مستغلة وضعها كخامس أكبر اقتصاد عالمي، لكن في هذه الحالة سيبذل الاتحاد كل جهد ممكن لضمان معاناة بريطانيا اقتصادياً؛ لغلق الباب أمام أي دولة تسلك مسلك بريطانيا في الخروج من الاتحاد.
– ما تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد على الولايات المتحدة الأميركية؟
يعد خروج بريطانيا من الاتحاد تخسر أميركا أقوى صوت مساند لها في الاتحاد الأوروبي، ما يهدد بإضعاف تأثير واشنطن في دوائر صنع القرار الأوروبية ويقوي في المقابل موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويشجعه على المزيد من التحدي للغرب.
كما يزيد الاستفتاء، الذي أجري يوم الخميس ويُرى على نطاق واسع بوصفه انعكاساً لمواطنين تزيد لديهم نزعة القومية والاهتمام بالشؤون المحلية، من مخاطر الانقسام داخل المملكة المتحدة نفسها، مما قد يقلل أكثر من دورها وتأثيرها في الشؤون الدولية.
– ماذا بعد إجراء الاستفتاء؟
من المتوقع أن يستغرق خروج بريطانيا بشكل كامل من الاتحاد الأوروبي عامين إلى 10 أعوام، وتستمر بريطانيا خلال تلك الفترة في تطبيق أنظمة الاتحاد الأوروبي.
ومن الناحية القانونية، فإن نتيجة الاستفتاء غير ملزمة لحكومة ديفيد كاميرون، إلا أنه من المتوقع أن لا يتجاهل رئيس الوزراء قرار شعبه، والبدء، في أسرع وقت ممكن، بتنفيذ إجراءات الخروج، وتبدأ الإجراءات بإعلام المفوضية الأوروبية بقرار خروج بريطانيا من الاتحاد، وفقاً للمادة 50 من معاهدة لشبونة، وبعدها يبدأ الطرفان مفاوضات من أجل التوصل لاتفاق ينظم إجراءات عملية الخروج، وبعد التوصل للاتفاق، أو بعد عامين على الأكثر من القرار، لا تعود معاهدات الاتحاد الأوروبي سارية في بريطانيا، ويمكن مد هذه الفترة، بالاتفاق بين لندن والاتحاد الأوروبي، وستحدد الاتفاقات التي ستتوصل إليها بريطانيا، ما إذا كان مواطنوها سيحتاجون للحصول على تأشيرة دخول دول الاتحاد.
وفي حال البقاء في السوق الأوروبية المشتركة، سيكون بإمكان المواطنين البريطانيين الاستمرار في العمل داخل دول الاتحاد الأوروبي، إلا أنه في حال وضعت لندن قيوداً على منح أُذون عمل لمواطني الاتحاد الأوروبي، سيكون على البريطانيين الراغبين في العمل ضمن دول الاتحاد الأوروبي، الحصول على إذن عمل أيضاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.