بغض النظر عما قدمة الاستفتاء البريطاني من دروس حضارية مستفادة في إدارة الصراع السياسي والاحتكام إلى رأي الشعب واحترام خياراته للفصل في اختلاف إلا أن قدم صورة حضارية للقيم القيادية للمؤسسات الدستورية الحاكم في هذا البلد العريق.
إلا أنه ما لا يختلف علية اثنان فإن التوقيت الذي جرى فيه هذا الاستفتاء بالغ الحساسية والصعوبة على المستوى الداخلي والقاري والدولي، الأمر الذي ترتب عليه مجموعة من التداعيات على السياسة داخلياً وإقليمياً ودولياً، وهي تداعيات بالغة الأهمية، خاصة إذا افتقدت بريطانيا خاصة، وأوروبا عامة لقيادات تاريخية في هذه اللحظة قادرة على استيعاب المتغيرات التي تشهدها القارة والتعامل الواعي مع التداعيات.
– الاستفتاء تم في ظل انقسام بريطاني جاد على المستوى الشعبي والسياسي، بل حتى داخل الحزب الحاكم ذاته، دون منح الجميع وقتاً مناسباً للحوار العميق بين كافة أفراد الشعب البريطاني حول مستقبل بريطانيا وآثاره، ما جعل الخطاب يتسم بالتشنج والكراهية والحشد رغبة في الانتصار وكفى، وهو أمر عبر عنه الشباب الذين صوَّتوا ببقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، معتبرين أن القدماء تحكموا في مستقبلهم وهذا كله سيؤثر على النسيج الاجتماعي البريطاني، ويُحدث شرخاً بين الأجيال، كما سيؤثر على حالة بريطانيا كدولة عظمى يسكنها خليط كبير من السكان ينتمون إلى شعوب وجنسيات وديانات مختلفة، وعلى صورتها السياسية والاقتصادية والمالية، خاصة مع تنامي تيار التطرف السياسي الذي يدعو إلى أن تكون بريطانيا للبريطانيين.
– إن نتيجة الاستفتاء بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي لن تكون في صالح بريطانيا كدولة، ولا في صالح أوروبا كقوة إقليمية تعمل مجتمعة على الحفاظ على أمنها الإقليمي في منطقة مضطربة، وشهدت حربين عالميتين منذ خمسين عاماً؛ حيث ما زالت هواجس التحديات الأمنية لم تفارق مشاورات واجتماعات قادتها، خاصة من جهة الشرق التي زادت بعد استيلاء الدب الروسي على شبه جزيرة القرم بالقوة العسكرية، دون أن تحرك أوروبا ساكناً، وهو تهديد حقيقي لأمنها القومي، وفي منطقة من أهم مناطق الصراع في العالم، الأمر الذي سيجعل أوروبا أمام تحديات أمنية خطيرة.
– نتيجة الاستفتاء تعد انتصاراً لصالح اليمين المتطرف الذي يعيش ربيعه السياسي الأجمل بعد موجة الهجرة، بسبب الحروب المشرقية في سوريا وأفغانستان والعراق، والذي احتفل بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتبادل التهاني، وبدأ بتقديم الطلبات إلى الاتحاد الأوروبي في بروكسل لمنح شعوبهم -على حد تعبيرهم- فرصة للتعبير عن آرائهم، وهذا في حد ذاته سيعمل على تعميق الاختلاف بصورة رأسية داخل المجتمعات الأوروبية بين المطالبين بالتقوقع داخل حدود الدولة الوطنية القطرية والراغبين بالبقاء في إطار الاتحاد الأوروبي والانفتاح على بقية دوله، وهو انقسام قد يقود إلى مزيد من التشرذم في المستقبل القريب، والذي يفضي إلى أعمال عنف.
وتعد مطالبة اسكتلندا بتنظيم استفتاء لبقائها في إطار الاتحاد البريطاني أولى نتائج هذا الانقسام؛ حيث تطالب اسكتلندا بالبقاء في إطار الاتحاد الأوربي، وكذلك الأمر جبل طارق التي صوَّت ناخبيه بنسبة 96% للبقاء في الاتحاد الأوروبي، ما دفع وزير خارجية إسبانيا لمطالبة بريطانيا بسيادة مشتركة على الإقليم؛ لحصول ساكنيه على امتياز التنقل والتسوق في دول الاتحاد الأوربي، بل تعدى الأمر ذلك إلى تلميح الداعين بانفصال تكساس عن الولايات المتحدة الأميركية بالاستفادة من التجربة البريطانية في الخروج من الاتحاد الأوروبي.
– نتيجة الاستفتاء البريطاني في مضمونها ثورة ديمقراطية شعبية ضد الطبقة السياسية التي عبثت بمصير العالم البعيد في الشرق، فدفعته للهروب من أتون هذه الحروب نحو أوروبا مشكّلة أزمة جديدة، وكذلك عبثت بأقدار الشعوب الأوروبية التي ترى أنها لم تحصل على ما وعدت به في الانتخابات من خدمات ورفاهية؛ حيث استأثرت الطبقات الحاكمة في الدول العظمى بكل شيء من أموال ورفاهية على حساب الطبقة المتوسطة، ما جعل الأرياف التي تعاني تنتفض ضد هذه السياسة بالانحياز لليمين المتطرف الذي يخاطبها عن مكافحة الفساد وحقها في الرعاية وزيادة الدخل وحماية هويتها، وهو أمر تكرر في انتخابات النمسا التي منحت الأرياف والمدن الأقل ثراء أصواتها لصالح اليمين المتطرف، والآن يتكرر في أميركا مع ترامب، وهي ثورة يجب التعامل معها بمعقولية وواقعية دون تجاهل أو استخفاف؛ حيث إن تجاهل المطالب الاجتماعية لهذه الطبقة يقود إلى أزمات سياسية واجتماعية كبيرة.
– أوروبا بحاجة إلى مراجعة عميقة لسياستها على المستوى الداخلي والخارجي، وإعادة النظر في عمل المؤسسات الحاكمة الديمقراطية والتشريعية، وفي فلسفتها الديمقراطية التي بدت أنها تعيش شيخوخة واقعية؛ لمنع تحكم فئة بمصير فئة، وهي مراجعة يجب أن تتم بصورة سريعة، حتى تستطيع الخروج من هذا المأزق، وبما يعطيها قدرة أكبر على استيعاب الحراك الداخلي والتحديات الخارجية؛ حيث إن جمود المؤسسات بهذه الرتابة قد يدفع المجتمع لسلوك طرق أخرى يرى أنها قادرة على تلبية مطالبه وحمايته من خطر يصنعه المتطرفون الوافدون والمتطرفون اليمينيون، ولا بد من وضع آليات جديدة وتطوير فلسفات سياسية واجتماعية تجيب عن أسئلة المواطن، خاصة من الشباب.
– إيقاظ التاريخ لعبة جديدة من ألعاب السياسة اليمينية الجديدة في أوروبا التي قد تشعل فتيل نار لن يستطيع أحد إخمادها، فخطاب التطرف بدأ بإحياء النعرات القومية والإثنية كنوع من الانتصار للهوية والكيان التاريخي لأجل بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا وغيرها من الدول داخل الاتحاد المشترك في اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي.
كما أن استحضار التاريخ بكل سطوته في هذه المعركة هو كالـ"مارد" إذا لم يحسن ترويضه، فإنه يختزل بركاناً من الأوجاع والأحقاد لتدمير ما بنته أوروبا من إرث سياسي واجتماعي وحقوقي خلال الستين سنة الماضية، ويكفي نموذج هتلر النازي الذي فجَّر بركان ألمانيا في الحرب العالمية الثانية انتقاماً لهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى.
أوروبا اليوم أمام مفترق طرق وحدتها وإرثها المدني وفلسفتها الاجتماعية، وهي بحاجة إلى قيادات بحجم المرحلة؛ حتى لا تذهب أوروبا بعيداً في المجهول والتطرف اليميني.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.