لم يمضِ عام على اقتحام تظاهرات حاملي الشهادات العليا من الماجستير والدكتوراه ميدان التحرير في مصر احتجاجاً على عدم وجود فرص عمل، حتى اقتحم المئات من تلاميذ مدارس الثانوية العامة المصرية الميدان هذه المرة، محتجين على قرارات وزير التعليم بإلغاء امتحان الديناميكا وتأجيل باقي المواد، بعد تكرار تسريب بعض المواقع على الإنترنت لأسئلة جميع المواد وإجاباتها النموذجية، ومن اليوم الأول.
وكان تلاميذ الثانوية قد احتشدوا أمام وزارة التعليم في قلب القاهرة قبل التوجه لميدان التحرير الذي شهد البدايات الأولى للثورة المصرية منذ خمس سنوات في يناير/كانون الثاني 2011، ولم تمنع حرارة الصيف في نهار شهر الصيام التلاميذَ من الاحتشاد في الشارع في مختلف المحافظات المصرية، رافعين لافتات تندد بفشل الوزارة في تنظيم الامتحانات، رافضين قرار التأجيل، وسرعان ما انطلقت شرارة الغضب لدى التلاميذ المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي؛ ليصبح في الساعات الماضية هاشتاجات "مش هنعيد" احتجاجاً على قرار الوزير بإعادة بعص الامتحانات و"دولة مش قد امتحان" و"دفعة الظلم"، تنديداً بفشل الدولة في إدارة امتحانات ثانوية عامة، هي الأوسع انتشارا على "فيسبوك" و"تويتر".
وقد تقدم أكثر من نصف مليون تلميذ وتلميذة لأداء امتحانات الثانوية العامة، حسب الإحصاءات الرسمية لسنة 2016، إلا أن امتحانات هذه السنة كانت مختلفة؛ إذ سرعان ما أدت فضيحة تكرار تسريب أسئلة امتحانات جميع المواد إلى مزيد من الاحتقان في الشارع المصري؛ لينضم الطلبة المحتجون على غياب العدالة الاجتماعية إلى قائمة الفئات المحتجة في مصر، سبقهم طلاب الجامعات والصحفيون والعمال والأطباء والمحامون.
كان آخر تلك التظاهرات هي ما عرف بـ"جمعة الأرض"؛ حيث احتشد المئات أمام نقابة الصحفيين المصريين احتجاجاً على نقل ملكية جزيرتَي تيران وصنافير إلى سيادة المملكة العربية السعودية، بعد أن ظلتا لعقود تحت السيادة المصرية، وكانت قوات الأمن قد قامت باقتحام نقابة الصحفيين في سابقة هي الأولى من نوعها، وألقت القبض على اثنين من الصحفيين بحجة التحريض على المظاهرات.
ولم يشفع صغر أعمار المتظاهرين من تلاميذ الثانوية العامة من بطش "الداخلية"؛ إذ قامت الشرطة بفض التظاهرات وإلقاء القبض على بعض الطلبة، لكن دلالات مظاهرات التلاميذ ربما تكون أبعد من مجرد حلقة من احتجاجات كثيرة شهدها الشارع المصري في سنة 2016.
هؤلاء التلاميذ لم تتجاوز أعمارهم السابعة عشرة أو أصغر كانوا في وقت قيام انتفاضة 25 يناير 2011 لم يتجاوزوا الاثني عشر عاماً غير مدركين للواقع السياسي بشكل كبير، لكن سرعان ما تشكل وعيهم على مزيد من القمع والاستبداد لطالما مارسته السلطة بشكل ممنهج بعد انتفاضة كان من أهم مطالبها الحرية والعدالة الاجتماعية.
ما الذي دفع طلاب المدارس إلى الاحتجاج في تحدٍّ واضح لسلطة النظام القمعية، معلنين قدرتهم على دفع فاتورة العصيان، حتى وإن تم القبض على البعض منهم، وربما الزج بهم في السجون لسنوات مثل آلاف الحالات الأخرى للشباب المحبوسين احتياطياً على خلفية قضايا مشابهة تتعلق بخرق قانون التظاهر؟
لم يجد هؤلاء التلاميذ أمامهم سوى الشارع لإيصال صرخة احتجاج عالية ضد النظام بفشله وظلمه.
ربما الإجابة عن هذا السؤال تتلخص في محاولة استعادة المكان، فمن يمتلك المكان يمتلك التأثير على الحياة السياسية، ففي اللحظة التي فقد فيها النظام هيمنته على الشارع في انتفاضة 2011، استطاع المتظاهرون زعزعة أركانه.
وقد أدركت السلطة المصرية قوة الشارع منذ اللحظة التي أطيح فيها برأس النظام ممثلاً في الرئيس حسني مبارك، وطوال السنوات الخمس الماضية حاولت الدولة إحكام قبضتها إلى أن جاءت تظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013؛ إذ سمحت قوات الأمن للمتظاهرين بالاحتشاد في كافة ميادين مصر؛ ليعلن بعدها الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، التابع لجماعة الإخوان المسلمين، وتولى بعدها الرئيس عبدالفتاح السيسي مقاليد الحكم.
وقد عمد نظام السيسي على إحكام القبضة على الشارع، فشرع قانون التظاهر الذي أدى إلى الزج بآلاف الشباب خلف القضبان لخرقهم القانون، وبعد أن كان ميدان التحرير رمزاً لطالبي الحرية والعدالة الاجتماعية في أحداث انتفاضة 2011 أصبح الميدان مغلقاً بسيارات الشرطة والجيش موصداً بالحواجز الأمنية في مداخله والطرق المؤدية له.
وبعد المحاولات المريرة لتفريغ الساحة السياسية والإعلامية من أي أصوات معارضة للنظام، لجأ النظام إلى إحكام قبضته الأمنية على الشارع وداخل النقابات المهنية وفي الجامعات، ففي الثلاث السنوات السابقة منذ تولي الرئيس السيسي الحكم، تم تغييب "الميدان"؛ لتتحول الاحتجاجات إلى صيحات غضب داخل أروقة النقابات أو على مواقع التواصل الاجتماعي.
إلا أن امتلاك الشارع لم يحل دون التعبئة والاحتشاد مرة أخرى في أحداث مختلفة كان للشباب دور حيوي فيها، فبامتلاك تقنية الاتصال والإعلام البديل في مواقع التواصل الاجتماعي، استطاع الشباب الذين تعرضوا لاتهامات بالتخوين والتهكم في وسائل الإعلام المملوكة للدولة التي اتهمتهم بالعمالة ونشر الأكاذيب وتكدير السلم العام ومحاولة قلب نظام الحكم.
بالمقابل، فإن امتلاك تقنية التواصل الاجتماع لدى الشباب وقطاعات أخرى يسودها مخزون من الغضب جراء ممارسات النظام، شكَّل وسيلة للحماية من كسر الإرادة الجماهيرية، فقد وظف الشباب هذه التقنية للحشد مرة أخرى صوب الشارع.
هنا تتجلى عفوية الاحتجاجات الطلابية الأخيرة، معلنة استعادة الشباب للحيز المكاني الخاص بهم المتمثل في الشارع وميادينه، والذي عمدت الدولة وأجهزتها الأمنية إلى الاستحواذ عليه؛ لأنه المعضلة التي يتم فيها التنازع فيها بين الجماهير الغاضبة والسلطة القمعية.
امتلاك الشارع هو امتلاك لحيز الوجود؛ لذا لم يكن مستغرباً أن يحافظ المحتجون في انتفاضة 2011 على نظافة الميدان بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك؛ إذ شعر هؤلاء الشباب بعد عقود من التهميش بالانتماء لهذه الشوارع والميادين، معلنين حقهم الشرعي في التعبير عن مطالبهم المشروعة.
ولطالما عمل النظام في مصر على تحويل الشارع إلى ملكية خاصة يسمح بها لمن يشاء بالاحتشاد طالما وافق مصالح الدولة حتى وإن لم يحصل فيها على التراخيص اللازمة للتظاهر، هذا إلى جانب إحكام السيطرة على الإعلام؛ بحيث لم يعد يسمع على شاشات التلفاز سوى الأصوات الصاخبة المؤيدة للنظام، وعلى الرغم من الإغلاق التام لميدان التحرير أمام المتظاهرين لم يجد الشباب -على صغر أعمارهم- بداً من النزول بعفوية مرة أخرى إلى الشارع والاحتشاد في الميادين في تحدٍّ لقمع السلطة، معلنين رفضهم لفشل الحكومة في إدارة امتحانات الثانوية وإمعانها في ترسيخ منظومة الفساد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.