عالميا، لا نجاة لدعاة الديمقراطية من أزمة تراجع الجاذبية الفكرية والفاعلية الشعبية لمقولاتهم الكبرى كسيادة القانون وتداول السلطة وحقوق الإنسان ومواطنة المساواة الكاملة سوى بالبحث عن استجابات موضوعية للصعود الراهن للقوميات المغلقة وللنزوع الشعبوي والغوغائي إن في مجتمعات استقر تنظيمها السياسي على أسس تعددية أو في غيرها من المجتمعات التي تهيمن عليها حكومات سلطوية.
ليس من قبيل المصادفة الكونية أو المؤامرة الدولية على الديمقراطية أن يتنامى بإطراد الوزن الانتخابي والنفوذ السياسي لقوى أقصى اليمين وأقصى اليسار في البلدان الأوروبية، وأن يحدث ذلك من جهة في سياق عزوف شعبي واسع عن نخب الوسط الحاكمة (يمين الوسط ويسار الوسط) وعن وعود الرخاء والحرية والأمن التي اعتادت أن تقدمها ومن جهة أخرى في سياق شكوك عامة متزايدة بشأن نزاهة هذه النخب ومدى ابتعاد عناصرها عن إساءة استغلال المنصب العام وقابليتها للإنصات لمخاوف ومطالب الناس وقدرتها على تخصيص موارد المجتمعات بحيادية تعتبر بصالح الأغلبية وتلتزم بقيم العدل والمساواة وتقاوم هيمنة الفئات المجتمعية صاحبة مواقع الأفضلية الاقتصادية والبيروقراطيات النافذة.
تتمايز قوى أقصى اليمين وأقصى اليسار لجهة توظيف الأولى للأفكار القومية المغلقة ومقولات كراهية الآخر والخوف من الغريب والعداء للأجانب (خاصة الضعفاء) في مقابل اعتماد الثانية على الأفكار الشعبوية إن الرافضة للعولمة الاقتصادية والتجارية والداعية لتطبيق سياسات حمائية أو تلك التي تطرح بدائل واهية ومتهافتة للتنظيم الرأسمالي، إلا أن المجموعتين تلتقيان على الاستخدام الغوغائي للحظة الشك العام في نخب الوسط الحاكمة وتدفعان بعنف خطابي وسياسي نحو تغييرات متلاحقة وصادمة. وإذا كانت نتائج الاستفتاء الشعبي في بريطانيا التي جاءت بأغلبية تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي تمثل التغيير الصادم الأكثر حضورا اليوم، فإن النجاحات الانتخابية الكبيرة والمتواصلة لقوى أقصى اليمين وأقصى اليسار على المستويين الوطني والمحلي في عديد المجتمعات الأوروبية وكذلك السياسات العنيفة التي تطبقها (أو تضطر إلى تطبيقها) حكومات الوسط في مجالي الهجرة وتعميم الرقابة الأمنية على المجتمع تمثل خروجا عن اعتيادية العقود الماضية في أوروبا.
ليس من قبيل المصادفة الكونية أو المؤامرة الدولية على الديمقراطية أن يتصدر المشهد الانتخابي الراهن في الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، وأن يصبح خطاب الكراهية والتطرف والجهل الذي يروج له قبلة أقصى اليمين ووجهة شرائح واسعة في الطبقات الوسطى ومحدودة الدخل. يسيطر خطاب ترامب بكراهيته للأجانب وتطرفه بشأن قضايا كالإرهاب واللجوء وبعض الحريات الشخصية وجهله (بل وأكاذيبه) فيما خص السياسات الحمائية التي يقترح تطبيقها على الفضاء العام دون منازع، ويمكنه من استدعاء مشاعر الخوف من الحاضر والقلق على المستقبل المنتشرة بين الشرائح الوسطى ومحدودة الدخل وتوظيفها انتخابيا بغوغائية منقطعة النظير، ويضمن له في التحليل الأخير وبافتراض إخفاقه في الانتخابات الرئاسية ٢٠١٦ حضورا طويل المدى لخطابه في السياسة الأمريكية.
يستغل ترامب لحظة الشك العام في نخب الوسط (إن المنتمية للحزب الديمقراطي أو الجمهوري)، تماما مثلما يوظف تجدد دماء الأفكار القومية المغلقة وتموضعها مجتمعيا في سياقي العداء للمهاجرين غير الشرعيين والعداء للمسلمين، لإحداث تغيير صادم في المشهد الانتخابي بجعل الكراهية والتطرف والجهل مكونات رئيسية (وليست استثنائية) له، وإضفاء شيء من العلنية والقبول الشعبي على العداء للمقولات الكبرى للديمقراطية وتسخيف قيم الحرية والمساواة. يحقق ترامب نجاحاته الانتخابية ويحسم سباق الجمهوريين للترشح الرئاسي، يندفع مواطنون أمريكيون مارسوا تقليديا العزوف عن السياسة إلى المشاركة في دعمه ويحملون مفردات الكراهية والتطرف والجهل إلى واجهة الصراع المجتمعي، تتماثل غوغائية خطاب ترامب صاحب الريادة الراهنة لأقصى اليمين مع النزوع الشعبوي لأقصى اليسار ومع بنية الخطاب الناقد لنخب الوسط الحاكمة وللمصالح الاقتصادية والمالية والبيروقراطية النافذة وللرأسمالية العالمية الذي يعبر عنه سياسي الحزب الديمقراطي برني ساندرز وتتبناه شرائح مجتمعية أخرى (أبرزها صغار السن والشباب).
ليس من قبيل المصادفة الكونية أو المؤامرة الدولية على الديمقراطية أن تتوقف الحكومات السلطوية في عديد المجتمعات وفي سياقات اقتصادية وسياسية شديدة التنوع عن محاولات التجمل بإنكار انتهاكاتها الممنهجة لحقوق الإنسان والحريات وادعاء التزامها بمسارات التحول الديمقراطي، وأن تنتج خطابا عنيفا (تارة منفردة وتارة عبر آليات التنسيق الكثيرة بين السلطويين) يقرن من جهة الديمقراطية بانهيار الدول الوطنية وغياب الأمن وتنامي خطر الإرهاب وتدفقات اللجوء والهجرة غير الشرعية ويرادف من جهة أخرى بين الإدارة السلطوية وبين الحفاظ على بقاء الدول الوطنية وتحقيق الاستقرار والأمن. من الصين وروسيا إلى الأغلبية الساحقة بين حكام العرب، سلطوية لم تعد تبحث عن مبررات لوجودها الجاثم على أنفاس المجتمعات والناس ولم يعد يعنيها لا حديث الغرب (المتقطع) عن الديمقراطية ولا (قليل) الانتقاد الأممي لمظالمها وقمعها وعنفها.
بل تمارس الحكومات السلطوية نهجها "الجديد" (سلطوي وافتخر) في إطار توظيف متصاعد للأفكار القومية المغلقة والمتطرفة، واستدعاء واسع النطاق إن للمشاعر الوطنية الشوفينية أو الدينية الزائفة (والمراوحة بين البديلين الوطني والديني تحددها دوما سمات المجتمع المعني وصيرورة تحولاته). وتفرض سطوة التوظيف السلطوي هنا مضامينها ومفرداتها على معارضي السلطوية الذين يتخلون عن المطالبة بالديمقراطية ويستسلمون لمصيدة المقارعة بالوطنية أو بالدين.
هذه لحظة عالمية لإعادة النظر في أسباب تراجع الفكرة الديمقراطية والعوامل المؤدية لهيمنة بدائلها المتهافتة أخلاقيا وإنسانيا وسياسيا على مجتمعات تتفاوت في كل شيء وتشترك في معاناة أغلبياتها من الانجراف إلى الأفكار القومية المغلقة والخليط الرأي من الشعبوية والغوغائية.
هذه التدوينة منشورة علي موقع جريدة القدس العربي
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.