عقود طويلة حاول فيها المتخصصون في العلوم السياسية أن يشرحوا لِمَ تُبدي المنطقة العربية تحديداً تلك المقاومة للديمقراطية، سلسلة الانتفاضات التي بدأت بثورة الياسمين التونسية في المنطقة العربية قد جعلت الكثير من هؤلاء الباحثين يظن أن تلك المقاومة للديمقراطية قد انتهت، أخيراً. خمس سنوات مرت منذ ذلك الحين ولم تنجح أي من الدول التي شهدت تلك الانتفاضات تقريباً في التحول للديمقراطية. من أهم هذه المحاولات غير المكللة بالنجاح، حتى الآن، المحاولة المصرية، البعض اعتبر إزاحة الرئيس المصري المنتخب ديمقراطياً في منتصف 2013 بالقوة العسكرية نهاية للمحاولة المصرية في التحول للديمقراطية.
التحول الديمقراطي هو ملف مهم من ملفات البحث في مجال العلوم السياسية، وقد ازداد هذا الملف، والمتخصصون به، أهمية في نصف العقد الماضي من الزمن، بحكم التطورات التي شهدتها المنطقة، حاول الباحثون في هذا المجال الإجابة عن هذا السؤال: ما هي ظروف ومتطلبات التحول إلى الديمقراطية؟ باحثون مختلفون عرضوا أجوبة مختلفة لهذا السؤال، فتعددت أجوبتهم لتشمل وجوب أن يتمتع المجتمع بمستوى اقتصادي معين، وأن تنتشر في المجتمع ثقافة معينة تُبدي اعتباراً لحقوق شخصية أساسية لازمة للفرد في المجتمعات الديمقراطية، والبعض اعتبر إيمان النخبة السياسية بالديمقراطية شرطاً أساسياً للتحول للديمقراطية، وغير هذا الكثير من الاقتراحات والنظريات.
يشترط دانكورت رستو، في نموذجه للتحول الديمقراطي، أن تتوافر في المجتمع عدة مقومات؛ ليكون قادراً على القيام بعملية التحول تلك، أول هذه الشروط هو أن ينتمي الأفراد انتماءً سياسياً واضحاً للمجتمع محل النظر، بمعنى أن لا يعطي الأفراد لانتماءاتهم المذهبية، أو الدينية، أو العرقية الأولوية على انتمائهم للمجتمع الأكبر، وأن لا يعاني المجتمع من النزعات الانفصالية مثلاً، أما إذا كان أفراد المجتمع يعانون من مشكلة هوية فسيكون ذلك معرقلاً للديمقراطية فـ"قبل أن يقرر الشعب أن يتحول للديمقراطية على أحدهم أن يقرر من هو الشعب".
إذا كان هذا الشرط الأول متحققاً فالمرحلة الثانية في رحلة التحول للديمقراطية ستكون مرحلة النزاع السياسي، يتجلى هذا النزاع في تنظيم المجموعات المحبطة من المجتمع نفسه لمواجهة المجموعات المسيطرة على الحكم، يتحتم على النخب السياسية، في تلك اللحظة المفصلية، الاختيار ما بين الديمقراطية كوسيلة لتنظيم ذلك النزاع أو اللجوء لحلول أخرى أشد دموية وأكثر فوضوية.
إذا كان المجتمع محظوظاً بتملك نخب سياسية على قدر من المسؤولية اختارت الديمقراطية وأجلت الاعتبارات الأيديولوجية لمرحلة أخرى تكون فيها الديمقراطية راسخة، تأتي بعد ذلك مرحلة التأهيل، فبعد أن اختار هذا الجيل الديمقراطية، على مضض، على اعتبار أنها أقل الحلول كلفة للنزاع السياسي ينشأ جيل جديد لم يرَ النزاع أصلاً ويرى في الديمقراطية أسلوباً طبيعياً للحياة ولإدارة الدولة.
في كتابه "الموجة الثالثة"، اقترح سامويل هانتنغتون خمسة أشكال ممكنة للتحول للديمقراطية؛ الشكل الأول هو الشكل الدائري، حيث يظل المجتمع يتنقل بين النظامين الاستبدادي غير المستقر والديمقراطي غير المستقر، اقترح أيضاً نموذجاً آخر هو نموذج المحاولة الثانية، في هذا النموذج يتحول المجتمع من النظام الاستبدادي الراسخ إلى الديمقراطية الضعيفة، ثم ما يلبث أن يرتد إلى الاستبدادية مرة أخرى، لكنها تكون استبدادية ركيكة فتخلفها في النهاية ديمقراطية راسخة. اقترح هانتنغتون بالإضافة إلى تلك النماذج نماذج أخرى للتحول تشمل نموذج الديمقراطية المقاطعة والانتقال المباشر.
يوضح هانتنغتون في كتابه أنه في مرحلة الانتقال تكون الأنظمة المستبدة في موقف لا تحسد عليه، نظام الحكم المستبد عليه أن يختار بين سيئ وسيئ، الديكتاتور يبني شرعيته على وعود براقة بتحقيق الأمن والاستقرار والرفاهية الاقتصادية، يكون المستبد الحاكم أمام خيارين: إما أن يحقق هذه الوعود وينجح اقتصادياً، وفي هذه الحالة ينتج عن التقدم الاقتصادي تحسن بالتعليم واتساع للطبقة الوسطى، مما يخلق الظروف مناسبة لانتقال سلس للديمقراطية، وإما أن يفشل في تحقيق تلك الوعود فتتآكل شرعية النظام ممهدة لسقوطه.
بتطبيق هذه الأطروحات على الواقع المصري المرير نكتشف أنه ليس بهذه المرارة، فالظروف في مصر مواتية لتحقيق انتقال للديمقراطية، إذا نظرنا إلى المجتمع المصري سنجد الشرط الأول الذي أشار إليه رستو متحققاً، ليس لدى المصريين (في مواضع أخرى يطلق عليهم اسم المسريين)، أو أي جزء منهم مشكلة هوية حقيقية، أستطيع أن أزعم بثقة أن الأغلبية الكاسحة من المصريين ينظرون إلى المجتمع المصري باعتباره المجتمع السياسي الذي ينتمون إليه.
لم يجرب المصريون الديمقراطية قط لنقول إنهم مروا بمرحلة التأهيل التي أشار إليها رستو، لكني أستطيع القول بأنهم مروا بمرحلة تأهيل من نوع آخر قد تكون مفيدة في عملية التحول، عاش المصريون خمس سنوات من التأهيل رأوا فيها الكثير، رأوا فيها سقوط الرئيس الأب، فعرفوا أنه ليس أباً وأنه قابل للخلع، عاشوا عامين من حرية التعبير عن الرأي وعاشوا أعواماً أخرى بلا تعبير ولا رأي، عرفوا أن الصفقات مع المجلس العسكري لا تؤتي أكلها، وأن الانقلابات العسكرية لا تأتي بالديمقراطية، عرفوا أن الشعارات الدينية لا تكفي، وأن الجيش لا يحتكر الوطنية، عرفوا أن الدستور -أتى قبل الانتخابات أو بعدها- حبر على ورق في ظل انعدام دولة القانون وسيطرة السلاح والمال على الحكم، عرفوا أن "الأولانيين" باعوا "التانيين" في محمد محمود، وأن "التانيين" باعوا "الأولانيين" في الحرس الجمهوري والمنصة ورابعة العدوية فلم يعد لأحد الحق في المزايدة على الآخر من أرضية أخلاقية بعد الآن.
مصر، كدولة متوسطة الدخل، هي مؤهلة مادياً لتحقيق انتقال غير سلس للديمقراطية، فإذا عاينا الواقع المصري وجدنا أن التجربة المصرية من المحتمل أن تسير وفق نموذج المحاولة الثانية، الذي أشار إليه هانتنغتون في كتابه، المحاولة الأولى بدأت في 25 يناير/كانون الثاني 2011 وبالفعل نجحت في إسقاط نظام مستبد راسخ، عمره 64 عاماً؛ لتولد من تلك المحاولة ديمقراطية ركيكة ما لبثت أن أطيح بها تماماً في انقلاب عسكري في يوليو/تموز 2013، فوق أنقاضها بني نظام ديكتاتوري هو امتداد للأول، لكن الفارق الجوهري ما بين الأول والثاني هو أن الثاني ضعيف جداً بشكل مثير للسخرية في الحقيقة، بنى الديكتاتور الجديد شرعيته على وعود بتحقيق الأمن والرخاء الاقتصادي فما حقق لا هذا ولا ذاك، لم يحقق إلا المزيد من الفقر والبطش والإرهاب، يأكل المستبد الجديد شرعيته بنفسه، وما ارتفاع نبرة الغضب وامتناع الناس عن التصويت واحتجاجات الأقصر وجمعة الأرض إلا بعض الأدلة على ذلك، احتماليات بقاء النظام المستبد الجديد، في ظل هذه الظروف، ضعيفة جداً؛ لذا يتوجب علينا الإعداد للمرحلة الأخيرة من نموذج المحاولة الثانية، وهي مرحلة الديمقراطية الراسخة؛ لأنها آتية.. بإذن الله.. اليوم أو غداً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.