مشاهد ثلاثة من رحلة إلى بلاد بعيدة “2”

وقفت بالقرب مني سيدة متجهمة في ثياب الخدمة تدفع أمامها حاوية تفرغ فيها الأكياس البلاستيكية المدسوسة داخل سلالٍ متفرقة في كل ركن من المكان.. كانت حركتها متثاقلة ووجهها فيه قساوة تنفر.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/24 الساعة 04:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/24 الساعة 04:17 بتوقيت غرينتش

لقراءة الجزء الاول من التدوينة يرجى الضغط هنا

المشهد الثاني.. جوليا

جلسنا أمام بوابة الإركاب رقم ثمانية ننتظر مع مجموعة من "المطورين" (الفهلوية) أمثالنا ممن بكروا بالوصول، فمروا من حواجز المراقبة الأمنية المشددة، ساعة رخفة، قبل أن يشتد الازدحام في مطار كولومبس. كانت تفصلنا عن موعد الإقلاع ساعتان، تلهيت خلالهما بمتابعة مظاهر التفتيش الصارمة، وفي نفسي زهو من "قطع الواد ونشفو رجليه"..

منظر إذعانٍ عجيب ذلك الذي يتكرر في كل مطارات العالم كل لحظة: رجال ونساء حفاة، وجوههم محتقنة وابتساماتهم عصبية، يتجردون طواعية من متاعهم اتقاء لصوت صافرة الماسحة (السكانر) التي ما إن تنطلق، حتى ترى الواحد أو الواحدة منهم قد أقبل على الشرطي إقبال الطفل على أمه، يفتح ذراعيه مرحباً بتفتيشٍ جسديٍ سيخلي ساحته ويمنحه البراءة.. صراطٌ حقيقي، وآية من آيات السلوك البشري في علاقة مفهوم الحرية بالسلطة.

– انتباه من فضلكم، نُعلم السادة المسافرين على متن الخطوط الأميركية المتوجهة إلى مطار شارلوت أنه تم تأجيل الرحلة بسبب عاصفة برقية.
تبادلت أنا وأختي نظراتٍ تطمئن إحدانا بها الأخرى:

– تأخير ساعة لا يضير، وخير أن تحتجزنا عاصفة في المطار على أن ثقفنا في السماء..
وقفت بالقرب مني سيدة متجهمة في ثياب الخدمة تدفع أمامها حاوية تفرغ فيها الأكياس البلاستيكية المدسوسة داخل سلالٍ متفرقة في كل ركن من المكان.. كانت حركتها متثاقلة ووجهها فيه قساوة تنفر.

– انتباه من فضلكم، هذا أنا مجدداً، بخصوص رحلة الخطوط الأميركية المتوجهة إلى مطار شارلوت، يبدو أن الوضع يزداد سوءاً فوق المدينة، والرحلة دائماً مؤجلة إلى إشعار آخر.

بدأ التوتر يتسلل إلينا، لدينا رحلة ربط من مطار شارلوت إلى بوسطن بعد أقل من ساعتين، وأغلب الظن أننا سنضيعها إذا لم تقلع طائرتنا قريباً.. كانت ساعتي تشير إلى الثامنة والنصف مساء.. انتبهت لبعض المحلات وقد بدأت تتأهب للإغلاق، أمامها حاجز المراقبة الأمني شبه فارغ إلا من مسافر أو اثنين.. رويداً رويداً بدأت مظاهر "الطبيعة" تغلب على أفراد الشرطة.. أخرجت واحدة منهم هاتفها لتُري زميلها مقطع فيديو، على الطرف الثاني وقف اثنان يقهقهان وهما يحتسيان القهوة.. السلطة هنا مقيدة بالزمان والمكان..والهيبة للمهمة والقانون لا للأفراد أنفسهم.. وبانقضاء المهمة تتلاشى السلطة ومظاهرها..

– مساء الخير جميعاً، هذا أنا مرة أخرى، يؤسفني أن أخبركم أن رحلة اليوم قد تم إلغاؤها؛ نظراً لسوء الأحوال الجوية، ونعلمكم أن الرحلة المقبلة مبرمجة لصباح الغد على الساعة السادسة.. آسفون حقاً.

دبت الحركة بين مسافري الرحلة الملغاة، وارتفعت الهمهمات من هنا وهناك، وكنا نحن أيضاً من بين المهمهمين، فالساعة قاربت العاشرة، والمطار في مكان معزول، يبعد عن حيث كنا ساعات طويلة.. فلا مجال للعودة أدراجنا بعد أن قضينا نصف يوم أو يزيد في الانتظار.. كان الفندق الوحيد المتاخم للمطار مليئاً عن آخره بسبب دوري وطني للكرة الطائرة وحفلات التخرج الجامعية التي تحتظنها كولومبس تلك الأيام.. ما هي إلا دقائق حتى خلت البوابة من المسافرين، ولم يبقَ في المكان إلا أختي وأنا وشرطي متلهٍ برسائله النصية.. مرت السيدة المتجهمة من أمامنا بتثاقل، ثم توقفت وقالت بصوت بالكاد مسموع:

– ألغيت الرحلة؟

أجبناها بنعم.. فظلت واقفة لوهلة وملامحها لم تتغير، ثم اقتربت منا:
– لن يسمح لكما بالبقاء هنا بعد الثانية عشرة ليلاً، عليكما الخروج خلف الحاجز الأمني..
توقفت عن الكلام قليلاً.. ونحن نتابعها.. فجأة وكأنها تستجمع كل قواها، أردفت:
– إن كنتما لم تأكلا بعد فالأولى أن تشتريا شيئاً سريعاً قبل أن يقفل آخر محل.
قالت ذلك، وبدا على وجهها ما يشبه محاولة للابتسام..

خرجنا من منطقة الإركاب إلى ما خلف الحاجز الذي لا بد من المرور على صراطه غداً.. ورغم أنني لم أكن قد بت في حياتي بأي مطار، فقد بدأت أستطلع المكان بعين الخبير، بحثاً عن ركن مناسب لقضاء الليلة البيضاء وفق معايير معينة، أهمها أن يكون المحل على مرمى كاميرات المراقبة تحسبا لأي طارئ. انتبهنا إلى السيدة المتجهمة وهي مقبلة علينا، أشارت لنا بأن نتبعها، ففعلنا على مضض.

عرجت بنا إلى أن بلغنا مدخل طرقة هادئة ومنزوية عن التيارات الهوائية، ثم أشارت لنا بأن هذا هو المكان الأنسب لقضاء الليلة..

كانت جوليا سيدة قد جاوزت الستين من العمر بكثير، تعمل عاملة نظافة بالمطار، إصابتها بتصلب عضلي حاد أثرت على حركتها وقدرتها على الكلام والتحكم في عضلات الجسد والوجه، فتبدو للرائي متجهمة، باردة الملامح، مغضبة دائماً، وقد يقع فيما وقعت فيه أنا من تسرع وسوء فهم.. ربما لأننا ألفنا في بلادنا أن تكون كل إعاقةٍ هي إعاقة عن الحياة، وأن يكون كل شخص ذو إعاقة على هامش هذه الحياة: بلا توقعات، بلا فرص.

عذرٌ أقبح من ذنب؛ لذلك وجبت الكتابة ووجب الاعتذار.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد