الإسلاميون والسياسة

كان الصعود سريعاً، وكذلك السقوط، ففي مصر حرص بقايا النظام السابق على إزالة كل أثر لهم على الأرض، فكان القمع دموياً وفاشياً بلا رحمة، وفي تونس تأخرت حركة النهضة خطوة بعد أن ظهر لها عدم جدوى المقاومة وسلمت الحكومة طواعية، في تضحية بالمنصب الذي عملوا عليه طويلاً.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/24 الساعة 04:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/24 الساعة 04:33 بتوقيت غرينتش

بزغ نجم الإسلاميين في ردع عدوان الاستعمار، فلمع منهم أمثال الأمير عبد القادر الجزائري وشكيب أرسلان وعمر المختار والمودودي وغيرهم، ثم امتد دورهم للدعوة إلى محاسن الأخلاق ومحاربة استبداد بعض الأنظمة العربية، فكانت المواجهة التي أدت إلى النضال السياسي، وهي التي نتج عنها، مع طغيان الاستبداد واستفحال الفساد ظهور نجم الإسلاميين مرة أخرى وتحلق الناس من حولهما.

ففي مصر نجحوا في أخذ نسبة عالية من أصوات البرلمان، وقادوا مجموعة من النقابات ردحاً من الزمن، وفي تركيا راوغ أربكان النظام العلماني كثيراً ليكسب أردوغان بلدية إسطنبول ثم يجلس بعدها على سدة الحكم إلى وقتنا هذا، وبدأت مثل هذه المكتسبات في توسيع قاعدتهم الشعبية وإعطائهم زخماً حثهم على إكمال المشوار السياسي الذي بدأ يأخذ حيزاً من العمل الدعوي العام.

جاء الربيع العربي عاصفاً يحمل معه بذور الثورة، واشتعلت سماء العرب بمطالبات الحرية والعدالة الاجتماعية، كان كل شيء مهيأً للانفجار، الضغط الاقتصادي والقمع السياسي والفساد الإداري زاد عما يستطيع أن يتحمله العربي الذي يأنف العبودية ويأبى الضيم، فكانت تلك الشرارة التي أدت إلى الاتصال بالجذور الأولى قبل قرون، تلك التي رافقت الخروج الهادر لمقارعة الظلام ونشر العدل والرحمة في الناس، اشتعل كل شيء فجأة وبدأت الأنظمة تتساقط، وبدا على الجميع الذهول من سطوة الحشود الهادرة، وقعت بعض من أنظمة الاستبداد بسرعة غير متوقعة، وانهارت دول لم يكن يخطر على بال أحد تساقطها، ووقف شعبها محتاراً بعد ذلك فيمن يسوده مقام الرئاسة ويأمنه على إرث الثورة.

كان الفراغ كبيراً، وبدت الرهبة من الإقدام واضحة، فهذه المرة لا مجال للتراجع ولا توجد فرصة للتخاذل، فالناس حديثو عهد بثورة والكل متململ من العهود السابقة ولديه مطالب كثيرة وتوقعات هائلة، لم يكن من السهل على الإسلاميين تجاهل نداء الضعفاء والدعوة لحماية مكتسبات الثورة من أيدي الحكومة المختبئة وراء الأكمة منتظرة فرصة الانقضاض على فرائسها دون رحمة، فتقدموا لحمل مسؤوليتهم التاريخية التي بدأوها أيام الاستعمار، وألقوا بثقلهم كاملاً هذه المرة في غمار السياسة دون التفكير ملياً في العواقب، وصلوا إلى الحكم الذي كانوا يريدون، لكن دون خبرة سابقة، دون أشخاص مؤهلين لقيادة المناصب الحساسة من الدولة، دون أن يمدوا أيديهم إلا على استحياء لمن هم خارج نطاق العمل الإسلامي، فكان وصولهم هذا سبباً لتجمع الخصوم من حولهم لإسقاطهم.

كان الصعود سريعاً، وكذلك السقوط، ففي مصر حرص بقايا النظام السابق على إزالة كل أثر لهم على الأرض، فكان القمع دموياً وفاشياً بلا رحمة، وفي تونس تأخرت حركة النهضة خطوة بعد أن ظهر لها عدم جدوى المقاومة وسلمت الحكومة طواعية، في تضحية بالمنصب الذي عملوا عليه طويلاً.

وفي كلتا الحالتين كان الإمساك بزمام الحكم تسرعاً واضحاً، ونظرة قاصرة لم تأخذ في الحسبان الحسابات السياسية للدول الكبرى والمكر الداخلي والإقليمي والصراع الطبيعي على السلطة، ولم تراعِ أيضاً القصور السياسي الداخلي للإسلاميين، الذي يتمثل في مثلهم العليا وفي افتقارهم للإرث الفكري السياسي اللازم، لقد أرادوا الحكم باستخدام أدبياتهم المتوارثة، تعاملٌ بأخلاق مع خصوم بلا أخلاق، ودفعٌ للأيدي المضرجة بالدماء بأيدٍ عارية، فكانوا كمن يريد التغلب على الخصم في حلقة الملاكمة دون أن يقاتل أو يدافع عن نفسه!

القصور السياسي الداخلي للإسلاميين

كانت المعركة غير متكافئة بالطبع، ولن تكون كذلك طالما بقيت السياسة بلا أخلاق، فمن خاض المستنقع الآسن لا بد من أن يغوص في أوحاله السوداء وأن يتلوث بآثاره النتنة، ومما زاد الطين بلة، أن التراث الفكري الإسلامي لا يحتوي على الكثير من أبجديات العمل السياسي الفعالة، فالسياسة التي حُكم بها بعد الخلفاء الراشدين راعت الحاكم على حساب المحكوم، وعلى حساب مبادئ الإسلام الكبرى من حرية وعدالة وشورى وغيرها، وهذا ما أدى إلى تعطل تطور الفكرة السياسية عند المسلمين.

ومنذ ذلك الحين، استأثرت السلطة بالزعامة المطلقة وظهر الفساد السياسي والإداري، وهذا ما ساعد على تفشي الظلم وأدخل العالم الإسلامي في نفق طويل مظلم لم يخرج منه حتى الآن، ومع وجود قواعد عامة وأطر واسعة في الإسلام لأصول ومنهجيات العمل السياسي، إلا أنها لا تكفي في ظل التعقيدات السياسية المعاصرة، وتبقى كتابات بعض الإسلاميين في العمل السياسي نظرية وتفتقر إلى التطوير العملي؛ حيث إنها لم يكتب لها الممارسة الحقيقية على أرض الواقع.

وفي الوقت الذي طور فيه الغرب سياسته البرلمانية والتشريعية على مدار عقود، ترسبت في بلداننا الإسلامية أفكار وتصورات وتطبيقات بائدة كانت تمارس قبل عدة قرون ولم تعد صالحة للتطبيق في دنيا الواقع
، ومع أن الكثير من الأفكار التي اتبعها الغرب في أنظمته السياسية هي في أصلها أفكار إسلامية صرفة، كالشورى والتعددية السياسية والمدافعة، وتعدد الأقطاب التي تتقاسم السلطة، إلا أنهم أقدر على ممارستها منا؛ لأنهم وضعوها في قالب نظام متكامل وأقاموا لها مؤسسات ترعاها وتحميها.
ففي الوقت الذي لا يزال بعض الإسلاميين يناقش جدوى الديمقراطية ومدى موافقتها للنظام الإسلامي، يجدد العالم نسيجه السياسي والاجتماعي باستخدام هذه الآلة المتميزة، وفي الوقت الذي يتعثر فيه الإسلاميون في تعاملهم مع الواقع السياسي المختلف عما عهدوه في بيئاتهم المعقمة، يبزغ السياسيون بسهولة ويسر، وليس ذلك عيباً فيهم، إلا أن ذلك نتيجة ما يمليه عليهم تكوينهم الأيديولوجي وخلفياتهم الفكرية المتوارثة.

وراثة الإسلاميين لفكرة الفوقية في تعاملهم مع الآخر أقامت حاجزاً بينهم وبين أصحاب الخلفيات المغايرة والمبادئ المختلفة، فبداية من الصراعات بين أطيافهم المختلفة مروراً بأصحاب المذاهب غير السنية ثم العلمانيين والليبراليين وما بين ذلك من "العوام" وغير "الملتزمين"، تم تقسيم المجتمع إلى فئات ومجموعات بناء على قربهم وبعدهم من الفكرة الإسلامية الخاصة بهم، ومع ظهور الدعوات إلى تخوين الآخر والتشكيك فيه ونبذه، أصبحوا يلعبون وحدهم في مواجهة اللعبة السياسية التي هي عادة ما تحتاج إلى جهد الجميع.

وهكذا تقسمت الجهود إلى قنوات وأصبح الكل منشغلاً بنفسه والجميع لا يأمن غيره، وامتدت هذه الممارسة الفوقية إلى الأتباع الذين لا يحق لهم النقد، احتراماً لأسبقية العاملين في السلك الدعوي وتقديراً لمكانتهم الروحية والعلمية المرموقة، فالقادة الذين ينسبون لأنفسهم المعرفة المطلقة، ويسمون غيرهم بالافتقار إلى النظرة والخبرة، يخلطون بين الدعوي والسياسي، وبين التربية الروحية والتربية العملية! في معارضة واضحة للمنهج النبوي الذي كان يتيح النقد ويفسح مجالاً للاعتراض ويرى في التعبير عن مكنونات نفوس أتباعه فرصة للتطوير ومجالاً لتطور القيادات عبر مناقشة السياسات العامة والخاصة.

وفي ظل هذا الواقع المؤسف لا بد أن يتساءل الإسلاميون عن جدوى العمل السياسي: فهل هناك من فرصة لبناء المجتمع المسلم بعيداً عن السياسة كما دعت أدبياتهم السابقة؟ وإن كانت السياسة ضرورة يقتضيها الواقع فهل نلعبها بصفتنا الإسلامية أم بصفة بعيدة عن الدين؟ وإن كان ولا بد من خوض غمار السياسة القذرة، فهل نستطيع خلع الجبة والعمل وفق الحسابات العامة وإن تعارضت في ظاهرها مع مكتسبات الإسلام السياسي؟ ولعل مثل هذه التساؤلات تساعدنا على فهم القول الأخير لحركة النهضة التونسية مؤخراً: "لا دين في السياسة".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد