الأجزاء الثلاثة الأولى من هذه التدوينة هنا (1) و هنا (2) وهنا (3)
ينص دستور مصر لعام 2014م في المادة (151) منه على أن:
(يمثل رئيس الجمهورية الدولة في علاقاتها الخارجية، ويبرم المعاهدات، ويصدق عليها بعد موافقة مجلس النواب، وتكون لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً لأحكام الدستور.
ويجب دعوة الناخبين للاستفتاء على معاهدات الصلح والتحالف وما يتعلق بحقوق السيادة، ولا يتم التصديق عليها إلا بعد إعلان نتيجة الاستفتاء بالموافقة. وفي جميع الأحوال لا يجوز إبرام أية معاهدة تخالف أحكام الدستور، أو يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة).
وعلى ذلك فقد فرَّق النص الدستوري بين معاهدات الصلح والتحالف والمتعلقة بحقوق السيادة فوضع قيداً على سلطات الدولة (رئيس الجمهورية ومجلس النواب) بعدم التصديق عليها إلا بعد موافقة الشعب عليها في استفتاء مباشر؛ لما تنطوي عليه من خطورة تتعلق بمقدرات الدولة، فلا تنفرد سلطة مهما علت بإنفاذها، وإنما يستلزم ذلك إقرار الشعب لها أولاً بوصفه صاحب الحق الأصيل، ومصدر السلطة وصاحب السيادة، وذلك كشرط لازم لتصديق السلطة المختصة عليها (الرئيس والبرلمان) ومن ثم نفاذها.
أما النوع الثاني من المعاهدات وهي التي يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة المصرية، فقد حرمها الدستور تماماً على إدارة الدولة وشعبها ومنعهما من إبرامها مهما كانت الظروف والمبررات، وأياً كانت ما اتخذته من إجراءات لإقرارها، في نص جامد لا يقبل التفسير ولا التأويل، ومن ثم لا يحق لأي سلطة في الدولة مهما علت -في ظل هذا النص الدستوري الجامد الذي يمثل قيداً عليها تبعاً لقاعدة تدرج التشريع- أن تبرم معاهدات دولية تتنازل فيها عن أي جزء مهما صغر من إقليم الدولة المصرية، ولا حتى بإجازة الشعب مصدر السلطة وصاحب السيادة لتلك المعاهدة، لخروجها عن سلطة الشعب نفسه لمساسها بحقوق الأجيال القادمة.
(وتختلف دساتير الدول في معالجتها للتناقض الذي قد يحدث بين نصوصها والمعاهدات الدولية، والدستور الأكثر تقدماً في هذا المجال هو الدستور الهولندي، الذي يرجح المعاهدة على الدستور عن طريق موافقة البرلمان الهولندي على المعاهدة بأغلبية ثلثي أعضائه.
ويلي هذا النمط نمط آخر أقل ترجيحاً للمعاهدات الدولية على أحكام الدستور، وهذا النمط الثاني ازدهر في الفترة الأخيرة، ويمكن إيجاد أمثلة متعددة له، ومنها المادة (95) من الدستور الإسباني لعام 1978م والمادة (160) من الدستور الجزائري لعام 1976م، وهذا النمط الثاني يهدف من ناحية مبدئية إلى تجنب التشابك بين المعاهدات والدساتير، إلا أنه يرجح من ناحية فعلية الدساتير على المعاهدات المخالفة لها وذلك لعدة أسباب، منها:
تعديل الدستور ليس إجبارياً ولا يمكن التعديل إلا إذا رغبت الحكومة بذلك.
في أغلب الأحيان ومن أجل تجنب التشابك بين أحكام دساتير هذه الدول والمعاهدات الدولية المتنافرة معها تقوم هذه الدول بالتحفظ حول بنود من المعاهدات تتعارض مع دساتيرها). (1)
والدستور المصري -دستور 2014م التي أبرمت كل معاهدات سلطة الانقلاب في ظله- حذا حذو البلدان الأخيرة في ترجيحه لنصوصه على المعاهدات الدولية عند الخلاف بينهما بشكل صريح على نحو ما يبين من المادة (151) السالف ذكرها.
إلا أن ما حدث واقعاً لم تكن له علاقة من قريب أو بعيد بتلك النصوص الدستورية وما فرضته من قيود على السلطة الحاكمة في الدولة، فرأينا سلطة تفتقد للشرعية والمشروعية على نحو ما سلف، لا تسأل عما تفعل، تفتئت على الشعب وعلى الدستور وعلى كل سلطات الدولة الأخرى، وتستقل بإبرام كافة المعاهدات مهما كان موضوعها، ما تملك منها وما لا تملك، ثم تتولى بقوتها العسكرية إنفاذها دونما رقيب أو حسيب من شعب أو سلطة رقابية كمجلس النواب أو غيره، ومن اعتبار لدستور أو قانون، وهذا هو شأن الانقلابات العسكرية وديدنها.
رأينا ذلك جلياً في معاهدة الاتفاقية الإطارية الموقعة بين مصر وقبرص في سبتمبر/أيلول 2014م بترسيم الحدود البحرية لمصر، والتي تم التنازل بموجبها عن حقول بترول شرق المتوسط، لقبرص واليونان وإسرائيل، ثم في اتفاقية إعلان المبادئ المبرمة بين مصر والسودان وإثيوبيا في مارس/آذار 2015م والتي فرطت الإدارة المصرية بموجبها في حقوق مصر التاريخية في مياه النيل حينما اعترفت بحق إثيوبيا في بناء سد النهضة وبحصة مائية لإثيوبيا خصماً من حصتَي مصر والسودان لعدم نص الإعلان على حقوق مصر في مياه النيل بموجب الاتفاقات الدولية السابقة (1929م، 1959م)، فضلاً عن حق أديس أبابا في استخدام المياه في أغراض مختلفة مثل الصناعة والزراعة والشرب، بعدما كانت كل ما تطالب به استخدام السد في الكهرباء فقط، كما تجلت مخالفة السلطة المصرية للدستور في أوضح صورها في اتفاقية التنازل عن جزيرتَي تيران وصنافير للسعودية المبرمة في أبريل/نيسان 2014م.
فهل يمكن أن تكون لتلك المعاهدات التي يبرمها نظام كهذا أي أثر قانوني؟!!
وأي قيمة قانونية لمعاهدات تبرمها سلطة تقترف كل هذه الآثام؟!
يقيناً سلطة كهذه تكون غير جديرة باحترام المجتمع الدولي لتعهداتها الدولية.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) قانون المعاهدات الدولية د/ غسان الجندي، ص 107، 108.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.