تتضخم الصراعات في المنطقة العربية، وتزداد بشكل متسارع خطير، تعدّت فيه حدودها الطبيعية المعقولة، وتجاوزت المستويات السياسية، وانقلبت الحوارات والتفاهمات إلى جولات دموية شرسة، وصدام بقوة النيران، لم يراعِ حقاً إنسانياً كحماية المدنيين من الحروب وكوارثها، ولم تحفظ كرامة آدمية، لا لشيخ ولا لطفل أو لامرأة، فالتهمت بنيرانها الأبرياء، ودمرت المقدرات الحضارية والثقافية بشكل متعمد ممنهج، يمثل إهانة واضحة لما تحمله الذات العربية من معانٍ عميقة للعزة والكرامة.
وإن تمثلت بداية هذه الصراعات في احتجاجاتٍ وتحركات شعبية سلمية، تنادي بالحرية والمساواة، جوبهت بقبضةٍ من حديد، وقمع وتنكيل شديد من أنظمتها وحكوماتها، فوقعت نتيجة لذلك في فخ أيديولوجياتٍ فكريةٍ وأجنداتٍ سياسية وتيارات دينية استغلتها بطريقة مشبوهة، استهدفت بسمومها نسيج المجتمع الواحد، ولعبت على وتر الطائفية والحزبية والعرقيات والأقليات، فسيَّست الصراعات وحزبت، وحرف مسارها وفرقت وحدتها، وقيدت لهدفٍ غير هدفها، ولمصير غير مصيرها، في أجواء مشحونةٍ بالتحريض بصور واتجاهات عديدة، تثير الفرقة والتنابذ، مستهدفة بذلك كل مكونات المجتمع العربي؛ لتهوي بها في دائرة الصراع، فلم تعد الهوة بين الشعوب وحكوماتها فقط، بل تعدّت ذلك لتطال أنظمة الدول العربية، ونبشت على ما بينها من خلافات وخصومات، فلم تخلُ من ذلك الشر بقعة عربية، وإن خلت من صراع مسلح واقتتال صاخب، فإنها لا تخلو من صراعاتٍ صامتةٍ ومشاحناتٍ باردة لا تخفى على عاقل، ووفرت بعض الأقطار العربية مورداً بشرياً لأطرافٍ كثيرة متنازعة، في حين يمثل بعضها الآخر مورداً مالياً تعتمد عليه تلك الأطراف في تمويل نشاطاتها، وتزويد صفوفها بالعتاد الحربي.
الخطير أن الصراعات والمشاحنات المشتعلة بين الأطراف العربية المتنازعة اجتذبت لمعاركها الداخلية حكومات عربية وقوى إقليمية أخرى، بحجج مختلفة وذرائع متباينة، منها ما هو شرعي، ومنها ما تختفي تحته مصالح مشتركة، ومكاسب ذاتية، فلم يتوقف الأمر على الدعم المادي أو التأييد السياسي، فقد استنفدت الحرب إمكانيات أطرافها، وصار لزاماً عليها أن تبحث عن شركاء لها في ميدان المعركة، فاستوعبت من يحالفها ويناصرها، وبأي ثمن، وتدحرجت تدخلات الدول المجتذبة في الصراعات لحساب طرف دون آخر، حتى أصبح دورها جوهرياً في أحداث الصراع، وتفاقمت المشكلات وتعقدت الوقائع وتطور الصراع المسلح كتلة لهب متدحرجة، تلتهم أكثر من دولة عربية، فصراع سوري – سوري، وليبي – ليبي، ويمني – يمني، وعراقي – عراقي، ومصري – مصري، وانقسام فلسطيني، فيما فشلت المراهنات على إنهاء الصراعات المشتعلة بضربه حاسمة، أو تدخل سريع.
وفي ظل ما تشهده المنطقة من تجاذباتٍ سياسيةٍ وطائفيةٍ عنصريةٍ وتمسك أطراف الصراع بالسلاح، وعدم استجابتهم لصوت العقل والضمير، وتغليبهم للمصالح الخاصة على المصلحة العامة، وإصرار كل طرفٍ على وجهة نظره، وتنكّرهم للتفاهمات والحلول السياسية، يبدو أن أمد هذه الصراعات سيطول أكثر مما هو متوقع، وربما تتطور لحرب عربية – عربية دامية، تغرق في لظاها المنطقة بأسرها، وستكون نتائجها كارثيةً، قد تفضي إلى وطن عربي جديد، يتشكل على أساس ديني أو عقيدي، أو سياسي، وقد يكون أكثر انقساماً وتشظياً من الوقت الراهن، وأكثر بؤساً مما هو عليه الآن، وبنظم سياسية واجتماعية وثقافية أخرى أكثر ديكتاتوريةً وتنكراً لحقوق الإنسان، وقمعاً للحريات من النظم الحالية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.