قراءة في الدور القومي للرئيس بارزاني

ما زال نهج "الكوردايتي" الذي يسير عليه الرئيس مسعود بارزاني يشكل المرجعية القومية الأهم، ولا شك أنه بأمس الحاجة إلى التطوير والتعميق والمراجعة

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/19 الساعة 07:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/19 الساعة 07:10 بتوقيت غرينتش

من غير الجائز تناول الدور القومي للرئيس مسعود بارزاني بمعزل عن مسار
"الكوردايتي" الذي انتهجه الخالد مصطفى بارزاني سيراً على خطى الرواد البارزانيين الأوائل، بدءاً من الشيخ عبد السلام بكل إنجازاته التي لم تتحقق في خط مستقيم، بل عبر تعرجات ومحطات واجتياز مراحل في ظروف محلية وإقليمية ودولية متغيرة وشديدة التعقيد.

من ميزات هذا النهج التاريخي الذي ارتسمت معالمه الأولى قبل أكثر من مائة عام غناه في مجال اختبار مراحل التطور العالمي، وخصوصاً ما يتعلق بتحولات الشرق الأوسط والمنطقة الكردية، فقد عاصر الحقبة العثمانية وتمزق إمبراطوريتها والتوقيع على اتفاقية سايكس – بيكو الذي حول كردستان إلى أربعة أجزاء والحربين العالميتين الأولى والثانية بكل أهوالها وقيام ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى التي غيرت وجه التاريخ وكل المعاهدات الدولية المعنية بمصير المنطقة والكرد من بينها خاصة بعد انتصار الحلفاء مثل معاهدات واتفاقيات (بوتسدام ومالطا وطهران ويالطا) والتفاعل مع حركة "خويبون".
المعالم الفكرية لهذا النهج كانت أكثر ارتباطاً بالوقائع والحقائق على الأرض وليس بالنظريات التي يقول عنها هيغل "النظريات صفراء لكن شجرة الحياة خضراء دائماً" وانطلق هذا النهج من بيئة جغرافية (بارزان) تتميز بالتنوع الديني والثقافي والقومي، وبثقافة قبول الآخر المختلف، وإرادة رد المظالم ومناصرة المظلوم واحترام المرأة، بل قبول إدارتها للعائلة ومشاركة الرجل بأعباء الحياة ومواجهة المعتدين.
كان للبارزاني الكبير تجربته القومية الخاصة، وإلى جانب كونه زعيماً شرقياً ومبدئياً يأخذ مجتمعه بعين الاعتبار وينفر من التعصب الحزبي الضيق ومع تنظيم صفوف الشعب رافضاً الإسلام السياسي رغم تدينه يفصل الدين عن السياسة ويحترم كافة الأديان، فقد رأيت بأم عيني وعند زيارتي الأولى (1967) ولقائي به في منطقة "بالك" الذين يقومون بحمايته (آشوريون وكلدان وأزيديون إلى جانب بارزانيين).

بعد أن دشن الشيخ عبد السلام اللبنات الأولى لهذا النهج القومي عندما ربط الواجبات الدينية بالدنوية حين توجيهه مذكرة إلى السلطان العثماني يطالبه فيها بالاعتراف بالكرد كشعب وبحقوقه الإدارية والثقافية كان من تجليات نضوج البنية الثقافية – الفكرية لهذا النهج من بعده من خلال عدة محطات تاريخية أولها: في كونفرانس "باكو" (19 – 1 – 1948) بحضور ممثلين كرد من سوريا وإيران وتحدث مصطفى بارزاني للمرة الأولى بعد مغادرة كردستان العراق إلى إيران والمشاركة في ترتيبات جمهورية مهاباد والمسيرة الطويلة التي أخذت به إلى الاتحاد السوفييتي عن المسائل السياسية والفكرية والفلسفية التي تشكل إستراتيجية "الكوردايتي".
وثانيها: من خلال الكونفرانس السياسي – العسكري في كاني سماق (15 – 4 – 1967) وكنت حينها موجوداً على رأس وفد حزبي، فبكلمته المهمة توجه البارزاني إلى البيشمركة بالقول: أنتم أبطال هذا الشعب وتفدونه بأرواحكم، أتمنى عليكم رعاية الفقراء وقبول النقد فمن يعمل لأجل مصالحه الخاصة والشخصية ليس له مكان بيننا، وفي هذا الكونفرانس عرف البارزاني الكرد وأوضح مطالبهم وركز على أهمية العمل الجماعي وهاجم بشدة الأغنياء الكرد الذين لا يساعدون شعبهم، وردد: لست زعيماً لأحد لكنني خادم لشعبي.
كما تحدث عن معنى التقدمية بعيداً عن الشعارات البراقة والتقدمي هو من لا يظلم شعبه ولا ينهبه ويحافظ على كرامته وقال: لم أخن أحداً طوال عمري ولا أقبل أن يخونني أحد وتنظيم صفوفنا ركيزة قوتنا، ونحن نخوض صراع البقاء أو العدم ويجب عدم إهانة راعي قروي أو امراة لقد قلتها في 1945 وفي عام 1948 وفي 1960 وأكرر الآن أنه لا خلاف ولا صراع بيننا وبين الشعب العربي، فالكرد والعرب أصدقاء وإخوة، لكن صراعنا مع الأنظمة والحكومات.
إن بعض المنطلقات الفكرية والثقافية التي أشرنا إليها تشكل جزءاً من تراث نهج -الكردايتي الذي يسير عليه الرئيس مسعود بارزاني- والنهج هذا غير جامد بل يتفاعل مع تطورات الأحداث المحلية والخارجية ويتأثر بمحيطه الأقرب والأبعد، فمن مطالبة الشيخ عبد السلام بالحقوق الإدارية إلى شعار ثورة أيلول بقيادة البارزاني الكبير (الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان) إلى تحقيق الفيدرالية في عهد قيادة الرئيس مسعود ومحاولته منذ أعوام على إجراء استفتاء لشعب كردستان ليقرر مصيره كل ذلك دليل ملموس على مدى حيوية هذا النهج وتعبيره عن إرادة الشعب في كل مرحلة من مراحل التاريخ.
لاشك أن الظروف الراهنة للحركة التحررية الكردستانية بشكل عام ونحن بنهاية العقدين الأولين للقرن الحادي والعشرين تختلف عن بدايات انبثاق الحركة في القرن التاسع عشر، فقد ظهرت الدعوات الكردية الأولى على شكل قومي جامع، ثم بتقسيم كردستان تحولت إلى أجزاء من الحركة القومية، موزعة بين أربعة بلدان وانكب كل جزء على وضعه الخاص، عبر أدوات محلية (قُطرية) وليست قومية جامعة، أي لم يعد هناك احتمال حل قومي كردستاني موحد للقضية الكردية، بل حلول جزئية وطنية، وارتبطت مصائر الحركات الكردية بالحركات الوطنية العربية في سوريا والعراق والتركية والإيرانية، وحتى اللحظة لم تظهر حركة قومية كردية موحدة بعد تجربة "خويبون" تنظيمياً وسياسياً؛ لذلك المجال المناسب هو التنسيق والتعاون والاحترام المتبادل بين كرد الأجزاء الأربعة وحركاتها القومية التي تتميز عن بعضها في الكثير من المجالات الاجتماعية والثقافية.

لم يطرأ أي تغيير يذكر حتى اللحظة على تعريفنا السابق وقبل نحو خمسة عقود لتقسيمات الحركة الكردية وقضايا صراعها فالتشخيص السابق ما زال صحيحاً وهو وجود نهجين: واحد معتدل وطني وقومي وديمقراطي مؤمن بالحوار والحل السلمي ومع الثورة والتغيير الديمقراطي والاعتراف بالآخر المختلف ويشكل "كوردايتي" البارزاني العمود الفقري له. وآخر حزبوي متعصب مغامر فئوي مناطقي غير محصن، تابع للأنظمة الغاصبة للشعب الكردي متورط بمحور
(الممانعة) حالياً ويشكل مخلب قط للأنظمة المستبدة لإثارة الصراعات الكردية الكردية ويشكل ( ب ك ك وبعض التنظيمات الحزبية في أجزاء كردستان العراق وإيران وسوريا) المكون الأساسي له.
ما زال نهج "الكوردايتي" الذي يسير عليه الرئيس مسعود بارزاني يشكل المرجعية القومية الأهم، ولا شك أنه بأمس الحاجة إلى التطوير والتعميق والمراجعة عبر الانكباب العلمي والتحليل الموضوعي للخروج باستخلاصات مفيدة لإنارة درب الجيل الجديد، وهناك حاجة ماسة إلى التجديد الفكري والمراجعة الثقافية بروحية النقد الإيجابي، وعلى رأس جدول أعمال تلك المراجعة مسألة العلاقات القومية الكردستانية، التي لم ترسُ حتى الآن على قاعدة واضحة مؤسساتية فاعلة سليمة.
هناك بين أيدينا تجربة مهمة في هذا المجال، وأقصد مجال (العلاقات القومية) وهي مضمون وشكل ونتائج تعامل إقليم كردستان العراق وبإشراف مباشر من رئيس الإقليم منذ خمسة أعوام مع الملف الكردي السوري فلا شك بأن دافع ذلك التعامل السياسي كان الحرص على شعبنا ووحدة صفوفه وعدم إراقة الدم الكردي ولكن كما أرى، فإن النتائج لم تخدم الهدف المرجو والعبرة بخواتم الأمور كما يقال.
وقد أشار الأخ الرئيس في مقابلتين مع فضائيتي (عربية سكاي نيوز والجزيرة) إلى فشل الأحزاب الكردية السورية في قيادة الكرد، بل أساءت إليه، وأن (ب ي د) هو المسؤول عن دوام الأزمة، والمطلوب الآن بعد وصول الأخ الرئيس إلى هذا الاستخلاص السليم والدقيق الانتقال إلى الخطوة التالية الأهم وهي: البديل الذي أرى أن يكون على شكل مؤتمر قومي وطني كردي سوري عداده الوطنيون المستقلون الذين لم يشاركوا في خلق الأزمة وتعميقها وتجمعات الشباب ومنظمات المجتمع المدني وبعض أنصار الأحزاب من القاعدة، من أجل مراجعة ما حدث وصياغة البرنامج السياسي وتعميق توجه المشاركة بالثورة السورية وانتخاب القيادة الكفوءة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد