سادت حالة من الصدمة ظهيرة أمس (الخميس)، حينما أعلن أن نائبة بريطانية، تدعى جو كوكس، قد تعرضت لاعتداء مسلح وهي في حالة سيئة جداً في مستشفى مدينة ليدز في شمال إنجلترا.
وإن هي إلا ساعات، حتى عقدت شرطة المدينة مؤتمراً صحفياً؛ لتعلن أن النائبة العمالية كوكس، وهي في الأربعين من العمر، متزوجة وأم لطفلين، قد فارقت الحياة بعد تلقيها ثلاث رصاصات وطعنات خنجر، وأن تومي مير القاتل المفترض، قد ارتكب جريمته منفرداً لأسباب غير معروفة.
كثير من المسلمين تنفسوا الصعداء، فقد كانت الأخبار الأولى قد ذكرت أن القاتل كان قد أطلق صيحات وأن عملية القتل قد تمت بخنجر.
حالة الصدمة تحولت لأسى وغضب في الشارع البريطاني، فهذه أول مرة في تاريخ بريطانيا تغتال فيه نائبة برلمانية، وتعمّق الحزن عندما اتضح أن المغدورة مولعة بالأعمال الخيرية التي شاركت فيها منذ دراستها بجامعة كمبريدج المرموقة قبل عشرين عاماً.
ليتضح لاحقاً أن الصيحات التي أطلقها الجاني وهو يسدد طعناته كانت: "بريطانيا أولاً، بريطانيا أولاً…".
اغتيال سياسي إذاً لامرأة تدافع بحماس عن المهاجرين وعن المستضعفين في كثير من بقاع الأرض، خاصة في سوريا وفلسطين.
اغتيال في وضح النهار لنائبة هي أيضاً من أشد المدافعين عن البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، وهي القضية الكبرى التي تقسم المجتمع البريطاني بحدة بين دعاة الاستمرار وأنصار الانفصال.
انقسام تعاظم في الأيام الأخيرة؛ ليصل إلى تبادل الاتهامات بين المعسكرين، الذي يشتد التنافس وتكبر الخصومة بينهما، والتي تقول استطلاعات الرأي العام إنهما، قبل أسبوع واحد على إجراء الاستفتاء يوم الخميس 23 يونيو/حزيران، متساويان تقريباً، مما يجعل النتيجة غير متوقعة، رغم الضغوط الهائلة من كبريات العواصم الغربية والمؤسسات الدولية والمركز البحثية، التي حذرت من أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون له تداعيات خطيرة على الاقتصاد العالمي المتقلب، فضلاً عن آثاره السياسية والتجارية، خاصة على أوروبا، التي تشهد أوضاعاً قلقة تنذر بالتفاقم لأسباب عديدة، لعل من أهمها صعود اليمين المتطرف مستفيداً من حالة الخوف التي تنتاب المجتمعات الغربية.
خوف يكبر مع الأيام وقد نتج عن الانهيار الاقتصادي ابتداء من 2008، وليتعاظم بموجات الهجرة غير المسبوقة و"العمليات الإرهابية"، التي هزت عواصم غربية طالما تغنت بأمنها وازدهارها.
الانقسام حول الاتحاد الأوروبي هو في الأصل انقسام حول جملة من القضايا، أهمها وأخطرها الهجرة الأوروبية إلى بريطانيا، التي شهدت وصول الملايين من أوروبا الشرقية إليها في العقد الماضي.
هجرة تتزايد كل عام باطراد، فأقلقت قطاعات واسعة من المجتمع البريطاني وهو يرى ساسته عاجزين تماماً عن وقفها؛ لأن مقتضيات العضوية في الاتحاد الأوروبي تؤكد حرية التنقل والإقامة والعمل للمواطنين الأوروبيين، بلا شروط ولا قيود، في أي بلد عضو في الاتحاد.
اغتيال النائبة كوكس الذي أدانه الجميع بلا تحفظ بمن فيهم عتاة العنصريين، سيثير مزيداً من الجدل بين المعسكرين المتنافسين بحدة.
بين من يعتبره دليلاً على خطورة الخطاب المعادي للأجانب، الذي يتبناه ساسة كبار في البلاد، بمن فيهم وزراء في حكومة المحافظين التي يقودها رئيس الوزراء ديفيد كاميرون والمنقسمة على نفسها بهذا الشأن، وبين من يعتبره جرس إنذار مرعباً مفاده أن عدم وقف تدفق المهاجرين من أوروبا ومن خارجها، سيدفع بمزيد من الناس إلى التشدد إلى الحد الذي تغتال فيه ممثلة الشعب وهي تخرج من لقاء مع ناخبيها.
أعتقد أن هذه الجريمة التي أراد مقترفها الانتقام من إحدى المدافعات البارزات عن المهاجرين، سيكون لها أثر معاكس بحيث ستدفع بكثير من الناخبين المترددين حتى الآن، وهم في حدود 15 بالمائة، للتصويت بالبقاء في أوروبا تعاطفاً مع النائبة التي اغتيلت بسبب ذلك.
وستغتنم المؤسسة الحاكمة Establishment هذا الحدث، على بشاعته؛ لكي تدفع بقوة أكبر في اتجاه البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، وإن تذمرت من بعض سياساته ومن هيمنة الألمان عليه؛ لأنها تدرك أن أوروبا كانت عبر التاريخ قارة حروب بين الأمم التي تتقاسمها، وأنه لا سبيل للحفاظ على السلم فيها إلا بتشابك المصالح بين دولها فلا تفكر أي منها بالاعتداء على أخرى؛ لأنها ستكون خاسرة حتى ولو انتصرت.
غير أن صعود اليمين المتطرف سيتصاعد، وأزعم أنه سيتولى الحكم في السنوات القادمة، ديمقراطياً، في بعض الدول الغربية.
فالمؤسسة الحاكمة التي قامت بشيطنة الآخر، خاصة المسلم، بغية تمرير سياسات محددة وممنهجة، نشرت الكراهية والخوف بسبب حرب لا تنهي على ما تسميه الإرهاب؛ ليكون لذلك أثر عكسي بحيث قدم خدمة كبرى لخصومها من العنصريين اليمينيين الذين لا يخفون عداءهم لها وللآخر، أياً كان هذا الآخر حتى ولو كان هو أيضاً أوروبياً ومسيحياً أبيض.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.