أحداث عدة حصلت خلال الأيام القليلة الماضية، لا تتجاوز مدتها الأسبوع الواحد، جرت في مناطق مختلفة من أرجاء العالم، تشترك جميعها في كونها تمثل اعتداء على حق الحياة وانتهاكاً لحرمة الدماء واستباحة لإزهاق الأرواح، غير أنه في تفصيلاتها سنكتشف مقدار تناقض المعايير وحجم ازدواجية التصنيف وزيف المواقف تجاه كل حادثة بذاتها، رغم اشتراكها في الحالة الإنسانية المفجعة وفظاعة نتائجها.
كان الحادث الأول في بلاد الشام، هناك حيث القتل بلا حساب، والمجازر برنامج يومي يتوقعه الشعب السوري أينما كان، في النهار كما الليل؛ حيث قصفت الطائرات الروسية سوق الخضار الشعبية في مدينة إدلب فأصبحت أثراً بعد عيْن، وخلّف هذا القصف ضحايا قارب عددهم في حصيلتهم غير النهائية (38) شهيداً وعشرات الجرحى والمصابين، تناقل المراسلون بكل أسى صور الجثث المتفحمة لهؤلاء الضحايا المدنيين، منهم نساء وأطفال.
أما الحادث الثاني فهو لم يبتعد -أيضاً- كثيراً عن سوريا؛ هو في بلاد الرافدين، أحد المَواطن العتيدة للعروبة والثغور الأريبة للإسلام؛ إذ أعلن السيد صهيب الراوي، محافظ الأنبار، أن الميليشيات الشيعية قتلت (49) شخصاً من النازحين من الفلوجة والمناطق المحيطة بهم، مضيفاً أن عدد (643) نازحاً فُقدوا بعدما سلَّموا أنفسهم لقوات الحشد الشعبي، ولم يعرف مصيرهم حتى الآن.
وأما الحادث الثالث فهو في أوروبا (في فرنسا) وبالضبط في مدينة مرسيليا؛ حيث تجري في ربوعها تصفيات كأس الأمم الأوروبية (يورو 2016)، وهي المدينة المعروفة بأنها ذات المناظر الساحرة والأجواء الهادئة قبل أن يعكّر المشجعون الروس صفوها ويحوّلوا شوارعها إلى ما يشبه ساحة حرب أبطالها كانوا نحو (150) من المشجعين الروس (المخمورين) قاموا بأعمال عنف ضد المشجعين الإنجليز قبل مباراة بلادهم ضد إنجلترا، وطاردتهم الشرطة الفرنسية بالغازات المسيلة للدموع على مدار يومين من الفوضى التي أغرق فيها هؤلاء المخمورون مدينة الجمال والطبيعة، وخلّفوا فيها ضحايا وأضراراً بمرافقها وميادينها.
ثم يأتي الحادث الرابع، فقد جرت تفاصيله في مدينة "أورلاندو" في ولاية "فلوريدا"؛ حيث فتح شاب يُدعى عمر متين، يبلغ من العمر (29) عاماً، وهو أميركي من أصل أفغاني، النار في ملهى ليلي مخصص للمثليين فأسقط (50) قتيلاً و(53) مصاباً.
وغني عن البيان أن الحادثين الثالث والرابع قد استحوذا على جلّ الأضواء و(كاميرات) الإعلام، طار بها الركبان وتصدّر -بالذات- الحادث الرابع (ملهى المثليين في أورلاندو) الفضائيات ووسائل الإعلام. ردود فعل كبيرة تجاهه، الرئيس الأميركي أوباما يعلن تنكيس الأعلام حداداً على الضحايا، خطابات تضامن من رؤساء الصين وألمانيا وفرنسا، فرنسا أعلنت أن علم قوس قزح (شعار حركات تحرر المثليين والمتحولين جنسياً) سيضيء برج إيفل تعاطفاً مع الضحايا وتضامناً مع الأميركان، برقيات وبيانات التنديد والاستنكار بهذا الحادث تجتاح العالم، من شرقه إلى غربه، ومن جنوبه إلى شماله، عبّروا فيها عن صدمتهم ودهشتهم وغضبهم لهذا الهجوم غير الإنساني.
في الأثناء، وفي خضم كل ذلك، بقي الحادثان الأول والثاني طيَّ النسيان، لم يأتِ عليهما الإعلام إلاّ بما يوليه من ذكر للأحداث اليومية المعتادة، ولم يحظيا بجزء -مجرّد جزء- من التعاطف و(الفزعة) التي لاقاها الحادث الرابع من كلّ حدْب وصوْب، ولم يستنكر أحد تلك الأرواح الطاهرة التي تناثرت أشلاؤها في إدلب السورية والفلوجة العراقية، مع أن جريمة ذبحها وقتلها تزامن وقوعها مع الحادث الرابع، وكأنما حالهم ينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ولكن حمزة لا بواكي له"، وذلك حينما مرّ عليه الصلاة والسلام بعد غزوة أحد بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظَفَر، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، ثم كلّما مرّ على أحد رآهم يبكون قتيلهم؛ فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قال: (ولكن حمزة لا بواكي له)، وكان يقصد عمّه صلى الله عليه وسلّم الذي قُتل ضمن القتلى في هذه الغزوة ومُثّل بجثته، لكن لم يبكِه أحد كما الآخرين.
سانحة:
التهم الظالمة والمعايير المزدوجة تجاه تلك الأحداث الأربعة صنّفت قتل المدنيين في سوق إدلب في سوريا بواسطة الطائرات والقاذفات الروسية بأنها حرب ضد الإرهاب، وجعلت من قتل النازحين في الفلوجة بالعراق تحريراً من الإرهاب، فيما اكتفت بوصف اعتداءات المشجعين المخمورين في مرسيليا بأنهم مجرّد مشاغبين.. بينما أعلنت أن قتل المثليين في فلوريدا إرهاب!!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.