محاكمة الظواهر بالمظاهر.. هو خلل في التقدير وخطأ في التفكير ينتشر بكثرة بين الجماهير، ولعلّي أضرب عليه مثالاً تلخّصه قاعدة (الإخلاص والصواب) فكثيراً ما يغرّنا المظهر فنغفل الجوهر، ننظر إلى الأشكال وننسى الألباب، تأخذنا العناوين البراقة فلا نبحث عمّا وراءها من مشاريع معقولة، تغرّنا المثاليات فتعزلنا عن الواقع بمستطاعه ومحاله وممكنه وصعبه!
الإخلاص شرط لقبول العمل عند الله تعالى، والحكم عليه يكون في الدار الآخرة حصراً، أما في هذه الدنيا فصواب العمل هو شرط النصر والاستخلاف والتمكين، ولقد قرأت لأحد العلماء تفسيراً عجيباً لقوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} بأن المراد بالصالحين هم الصالحون لعمارتها ووراثتها وليس الصالحين بمقياس التدين والقرب من الله سبحانه، وفي مثل هذا يروى عن ابن تيمية قوله: "إن الله لينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة". وقد سُئل الإمام أحمد بن حنبل عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يُغزى؟ فقال: "أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيُغزى مع القوي الفاجر".
الجماهير -عموماً- لا تفكر بتعقّل إنما تقودها العاطفة وغريزة القطيع والانسياق وراء الجموع، وهذا ينطبق علينا خصوصا -كشعوب شرقية- تحمل من أخطاء التفكير ما تحمل، فكم أغرَتْنا شعارات رنّانة ومظاهر برّاقة وخطب صادحة فظننّا أن أصحابها ملائكة تمشي على وجه الأرض، لا ينطقون عن الهوى، ولا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، فامتلكوا قلوبنا وحازوا ثقتنا العمياء المطلقة!
نعم إن من حق المسلم على أخيه المسلم أن يظنّ به حسنى، لكن هذا على الصعيد الشخصي، وأفهم مقصوده لمنع الدخول إلى النيّات ومحاكمتها، فلا دخل له البتّة بتقييم الفكر والبرنامج والمشروع الذي يحمله هذا الأخ، أو هذا التنظيم أو هذه الجماعة.
أناقش مع بعض الأصدقاء خطى هذه الجماعة الجهادية أو تلك، فأراهم يبادرون للدفاع عنهم مردّدين: ألا ترى التزامهم بالشرع؟! ألم تسمع بشجاعتهم وبسالتهم في الميدان؟! انظر إلى سمتهم ووقارهم.. إلخ.
طيب وما دخل كلّ هذا في تقييم عملهم؟! هل إذا مرضتُ أذهب إلى طبيب حاذق -بغضّ النظر عن التزامه وفكره- أم أذهب إلى عابد زاهد مجاهد يعالجني؟! دعونا لا نخلط الأوراق فكل أمر له نصابه..
الشجاعة والبسالة والصدق والإقدام لا تعني الصواب للنجاح في هذه الدنيا البتة، فكم رأينا من نتائج تعتصر لها القلوب أسفاً لجهاد إخواننا في كثير من البقاع النازفة فهل اتّعظنا؟ وهل أفادت الأمة عنتريّات لا طائل من ورائها؟! وهل استطاع هؤلاء المتحمّسون المتنطّعون تحرير بلادهم ناهيك عن تحرير "الأندلس" وفتح أوروبا وغزو العالم كما يصرّحون؟!
بل إني أزعم أن النجاح حتى في الدار الآخرة يستلزم الصواب مع الإخلاص، ففهمي للإسلام أنه تلازم بين الدنيا والآخرة، بين النية والعمل، بين الإخلاص والصواب. فالإخلاص -باصطلاح الرياضيين- هو الشرط اللازم وغير الكافي لاجتياز الامتحان، قال تعالى: "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً".
يقول الفضيل بن عياض في تفسير هذه الآية: "أخلصه وأصوبه فإن العمل إن كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبَل، وإن كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً وصواباً".
وفي قوله تعالى: {قالت إحداهما يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}. وكذلك في الآية: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}، وكذلك في قوله: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} وغيرها.. إشارة قرآنية لطيفة إلى ضرورة تلازم القوة مع الأمانة -الحفظ مع العلم، التمكّن مع الأمانة، الصواب مع الإخلاص- لتحقيق النجاح وإدراك الفلاح..
وأختم بقول أبي أيوب السختياني رحمه الله: "في أصحابي من أرجو بركته ودعاءه ولا أقبل شهادته".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.