استفحل أمر السرقات العلمية حتى صرنا لا نعرف من هو الشخص الأول الذي كتب النص الذي نقرؤه في المقالات والبحوث والتقارير والكتب!! وصار الكثير من المقالات والبحوث عبارة عن نقول من آخرين دون مراعاة لأبجديات الكتابة العلمية والأمانة الأكاديمية.
هناك مظاهر كثيرة لهذا الأمر، منها السطو الكامل على النص (الكتاب أو الرسالة العلمية أو البحث) وتغيير عنوانه وتقسيماته الداخلية وإعادة نشره بعنوان جديد. وقد كان هناك أستاذ يقوم بهذه الممارسة حتى صارت له عشرات الكتب في العلوم السياسية وما جاورها من معارف، حتى إن باحثين من دول عربية كانوا يسألون عن كتاباته، وفي النهاية فالمكتبات العربية بها العشرات من الكتب باسمه أما أصحاب الرسائل الأصليون ففي غياهب النسيان.
وهناك النقل من بحوث أو رسائل علمية مختلفة ونقل مراجعها ومصادرها، وتوزيع المراجع الموجودة في البحث المسروق على الأجزاء المنقولة من المصادر المختلفة!! وهنا يبدو الأمر وكأن من يقوم بهذا قد عاد لهذه المراجع، وبالطبع هذا لا ينفي أن يضيف الكاتب بعض العبارات من عنده هنا أو هناك.
وهناك آخرون يقومون بنقل أجزاء أو فقرات بالكامل من بحوث أخرى دون التقيد بقواعد الاقتباس، كوضع علامات تنصيص لهذه العبارات المنقولة إذا تم اقتباس العبارة بحذافيرها، ويظن هؤلاء أن مجرد ذكر المصدر في هامش واحد أمر كافٍ لنقل فقرات بالكامل قبل وبعد هذا الهامش.
وهناك أشكال أخرى بالطبع من عدم الأمانة العلمية كسرقة أفكار الآخرين أو خلاصات بحوث آخرين أو غير ذلك.
وقد عانيت شخصياً من هذه الظاهرة، فرسالتي للماجستير تم نقل أجزاء كبيرة منها في موسوعة إلكترونية لشخصية عربية، وبرغم أن بيانات الرسالة وردت في قائمة مراجع الموسوعة فإن النقل لم يتقيد بأبجديات التوثيق المتعارف عليها، كما تم نقل أجزاء كثيرة من عدة بحوث لي على يد أكثر من كاتب، ولي زميلان فاضلان تم النقل من بحوثهما على يد كاتب راح يعيد نشر هذه البحوث على شكل سلسلة مقالات في مجلة تابعة للدولة، دون أدنى إشارة لتلك البحوث على الإطلاق.
للأسف لا يرتكب هذه الممارسات الباحثون الجدد أو صغار السن من الباحثين فحسب، وإنما هناك من وصلوا إلى مرتبة الأستاذية، وهناك من هم في مناصب إدارية عليا، وهناك جنرالات ممن يسمون خبراء استراتيجيين يقومون بذات العمل.
للظاهرة أسباب كثيرة، منها عدم تطبيق القوانين التي تجرم هذه الممارسات، وتراجع أخلاقيات وآداب البحث العلمي، والتساهل في الإشراف العلمي، وغلبة العوامل الشخصية والمحسوبية، وعدم وجود آليات للمتابعة والعقاب، وضعف مقررات مناهج البحث، وعدم الاهتمام بإجراء ورش عمل ودورات تدريبية خاصة بالكتابة البحثية والعلمية.
كما أن قضايا حقوق الملكية لا تنتهي عادة إلى شيء، على عكس ما يحدث بالغرب في حالة ثبوت هذه الممارسات؛ حيث لا يفلت مرتكبوها من العقاب الذي يصل إلى السجن والتجريد من الدرجات العلمية في كثير من الحالات.
وبشكل عام نقل أكثر من أربع كلمات متجاورة دون علامات تنصيص ".." يعد سرقة علمية في كثير من الدوائر الأكاديمية المحترمة في العالم.
هذا فضلاً عن التقاعس عن فضح هذه الممارسات والاستسلام والشعور بعدم القدرة على التغيير حتى بين كثير من الأساتذة الحقيقيين أصحاب الضمير اليقظ في هذا الزمان الذي باع فيه الكثير من الأساتذة والمثقفين والباحثين ضمائرهم.
ولأجل الباحثين الذين يرون أساتذة لهم يقعون في هذا الأمر، لا مفر من التذكير -باختصار شديد- ببعض القواعد الأولية ذات الصلة التي قد تسهم في الحل.
فلأجل كتابة بحث علمي أو رسالة علمية أو كتاب أو أي نوع من الكتابة البحثية أو الصحفية أو حتى مقال رأي أو تقرير، على الكاتب التقيد بما يلي:
1. القراءة ثم القراءة ثم القراءة أولاً في الموضوع الذي سيكتب فيه، مع تعدد مصادر القراءة وتنوعها؛ حيث تمكن القراءة الكاتب من فهم واستيعاب الموضوع والإحاطة بأبعاده المختلفة.
2. بعد الفهم والاستيعاب على الكاتب القيام بصياغة عبارات وفقرات من صنعه هو وليس نقل عبارات بالكامل من المراجع التي اطلع عليها، وهنا يأتي التوثيق، فالكاتب لم يؤلف ما يكتبه من فراغ وإنما عليه أن ينسب "الأفكار" و"المعلومات" و"الاستنتاجات" إلى أصحابها، أي أن الكثير من العبارات التي صاغها الكاتب لا بد أن يكون لها مراجع ومصادر، ويمكن هنا كتابة: انظر في هذا الصدد، أو انظر لمزيد من التفاصيل مرجع كذا…
3. في بعض الأحيان يحتاج الكاتب إلى اقتباس "أقوال" أو "آراء" الآخرين، وهنا عليه أن يورد كل قول أو رأي مقتبس بين علامات التنصيص المتعارف عليها ".." ثم يوثق هذا في الهامش بأن يكتب في الهامش: ورد في مرجع كذا، ويذكر رقم الصفحة التي ورد فيها القول أو الرأي. وعادة ما يكون عدد الاقتباسات في أي مقال أو بحث أو رسالة محدودا في العادة، وغالبا ما تكون بخصوص رأي مهم للغاية. وبالإجمال لا ينبغي أن تزيد عدد الاقتباسات في رسالة الماجستير أو الدكتوراه على بضعة اقتباسات. وهذا الأمر يعتمد بالطبع على موضوع الرسالة الذي قد يتطلب المزيد.
4. قد يصل الكاتب إلى "نتائج" أو "استنتاجات" خاصة به (من صنعه هو) من خلال قراءاته واطلاعه على المصادر أو قد يحدد دلالات أرقام ما أو أحداث معينة، فهذه الأمور قد لا تحتاج إلى توثيق فهي من صنع الكاتب، مع الإبقاء بالطبع على توثيق الأرقام والأحداث التي استفاد منها. لكن – وهذا أمر ضروري للغاية – إذا كانت النتائج أو الاستنتاجات أو دلالات الأرقام والأحداث مأخوذة هي الأخرى من مصادر ومراجع أخرى، فعلى الكاتب أن ينسب هذه الأمور إلى أصحابها ويوثقها في الهوامش أيضا. ولا مانع أبدا – بل ومن المستحب – أن يقول الكاتب – مثلا – إنه يتفق مع فلان الفلاني في النتيجة التي وصل إليها وهي كذا وكذا.. أو يقول إنه يتفق مع فلان جزئيا في كذا وكذا ولا يتفق معه في كذا وكذا..
5. ليس مهمة الكاتب أو الباحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية نقل أو تجميع المعلومات فقط، وإنما مهمته الأساسية هي الفهم والتدقيق وامتلاك القدرة على التحليل والربط والنقد والمقارنة والاستنتاج، ومن ثم المساهمة في فهم الواقع وتراكم المعرفة الحقيقية، ولهذا فالاطلاع على كتب الكتابة العلمية وكتب التفكير النقدي في غاية الأهمية.
وأخيرا، لا مفر أن يكون حل هذه المشكلة وكافة مشكلات التعليم جزءاً لا يتجزأ من منظومة جديدة للتعليم بشكل عام من النواحي الأكاديمية والعلمية والإدارية والمالية، وحسب أيضا خطة وطنية شاملة للاستفادة من العنصر البشري وتكامل جهود المؤسسات الرسمية والمجتمعية، وبمشاركة كل أطراف العملية التعليمية من طلاب وأساتذة وإداريين. لقد ثبت أن الإصلاحات الجزئية عمرها قصير، كما أنه يمكن الإطاحة بها في ظل نوعية نظام الحكم الذي تعيشه البلاد منذ عقود طويلة، والذي لا يحترم الدستور ولا القانون، ولا يقيم دولة المؤسسات والرقابة والشفافية، ولا يفتح المجال أمام تمكين الأفراد والمجتمع والاستفادة من الكفاءات والخبرات الوطنية في الداخل والخارج.
نشرت في "البديل" بتاريخ 5 يونيو/حزيران 2016 للاطلاع على النسخة الأصلية اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.