مع اشتداد المعارك في المناطق المحيطة بمدينة دمشق، وازدياد عدد الهاربين من مناطق الاشتباك بحثاً عن الأمان، قام نظام الأسد بمحاصرتهم ومنع دخولهم إلى المدينة واستئجار المنازل فيها، مشترطاً عليهم الحصول على الموافقة الأمنية، ومن لا يتمكن من الحصول عليها يبقى عرضة للاعتقال، أو الموت بالبراميل المتفجرة.
وقد أشار أحد التقارير الصحفية نقلاً عن ناشطين إلى "أن غالبية الطلبات المقدمة للحصول على الموافقات الأمنية كانت تعود ممهورة بالرفض"، وهذا -حسب تلك التقارير- فتح الباب لازدياد حجم الرشوة، وأصبح كل مسؤول أمني يشترط الدفع ثمناً للحصول على موافقة تتيح لطالبها الحصول على السكن المؤقت داخل مدينة دمشق.
وقد أوضح أحد الناشطين في حديثه لأحد المواقع، أن "الرشاوى في هذا السياق تتراوح بين 75 ألفاً و150 ألف ليرة سورية للمنزل الواحد، كما تتفاوت الرشاوى من فرع أمني لآخر، إضافة إلى ثقل وزن الواسطة التي ترافق طالب الموافقة الأمنية".
يعتبر موضوع "الموافقة الأمنية" جزءاً عضوياً من أساليب نظام الأسد في إحكام السيطرة الأمنية، وحماية نظامه الأمني، وقد طالت كل جوانب الحياة اليومية للمواطن السوري، ويكفي أن نستعرض بعض الحالات التي قام النظام الأمني، ذات يوم، بإخراجها من قائمة الحالات التي تتطلب الحصول على الموافقة الأمنية؛ لنعرف حجم التغول الأمني في حياة السوريين، ومدى اعتماد النظام السوري على الأجهزة الأمنية في حماية استمراره، وتوريثه للجمهورية، وسط تصفيق الموالين والصمت المطبق للمعارضين خوفاً على حياتهم، المرصودة ثانية بثانية من قِبل هذه الأجهزة، كجزء من عملها على خلق حالة الرعب لدى المواطن السوري، الذي لا حول له ولا قوة.
احتفت الصحف السورية عام 2005 بقرار يقضي بإلغاء "الحصول على الموافقة الأمنية عن 67 حالة"، ومن هذه الحالات التي ألغاها القرار (بعضها ألغي على الورق وما زال معمولاً به)، التثبيت الوظيفي والنقل والإعادة إلى العمل والحصول على إجازة استيداع، كذلك لا بد من موافقة الأجهزة الأمنية المعنية على قبول الطلاب في المعاهد المتوسطة ومدارس التمريض، أو التكليف بتدريس ساعات من خارج الملاك، أو عند وضع الطلاب تحت الإشراف للدراسة خارج القطر، أو عند الاستفادة من المقاعد الدراسية الجامعية في الجامعات السورية.
وهذا يعني أنه بإمكان الأجهزة الأمنية رصد السوريين منذ يفاعتهم حتى وصولهم القبر، ومعرفة كل حركة أو سكون يقومون بها في يومهم الطويل.. الطويل!
كذلك تحتاج إقامة الندوات الطبية والدعائية إلى موافقة أمنية، والحال نفسه عند تأسيس جمعية سكنية أو إقامة معارض فنية أو أسواق تجارية، أو عند تعيين المخاتير، أو عند تجميع اللحامين والعمال والسائقين للحج والعمرة، أو عند طباعة البروشورات واللواصق التجارية للشركات، أو عند تأسيس مكتب سفر أو مكتب عقاري أو مكتب لبيع وشراء السيارات، أو مكتب تعقيب معاملات، أو مكتب شحن بضائع، أو تأسيس مدرسة تعليم قيادة السيارات أو محل بيع أجهزة محمول، أو صالة بلياردو أو صالة أفراح أو إنشاء فندق أو مقهى أو استوديو تصوير أو مصور جوال، أو صالون حلاقة، أو كشك في ساحة أو مطعم أو محل نوفوتيه أو فرن لصناعة المعجنات أو محل بقالة أو رخصة لاستيراد قطع سيارات أو مسبح أو محطة وقود.. إلخ!
هنا لا بد من الإشارة إلى أن بعض هذه الحالات، التي يشترطون فيها الحصول على الموافقة الأمنية، تترافق بشرط آخر هو تقديم التقارير عن حركتها بشكل دوري ودائم إلى الفرع الذي يمنحها، فيصبح صاحب الكشك "مخبراً"، ويصبح صاحب التاكسي عيناً لهم، عبر التقارير الملزمين بتقديمها لأفرع الأمن.
هذا مع العلم أن الموافقة على فتح هذه الأكشاك وعلى عمل التاكسي، غالباً، ما تكون محصورة بعناصر أمن يعملون في هذه الأجهزة، تعطى لهم كنوع من "التنفيعة" تعينهم وتعين معلميهم، الذين يتقاسمون معهم أرباحها!
أما في المدن والقرى الواقعة في المناطق الحدودية، فإن "شرط الحصول على الموافقة الأمنية" له امتدادات ودور في تنشيط عمل النصابين، فأنت لا تستطيع إذا اشتريت منزلاً في منطقة مثل "كسب" أن تسجله باسمك، فتكون أمام أحد أمرين: إما أن تدفع ما يعادل ثمن البيت نفسه، لتحصل على هذه الموافقة، أو أن ترضى بعقد شراء غير نظامي ولا تقبله المحاكم المختصة، ويبقى بيتك تحت رحمة السمسار، وكم من قصص رويت عن سماسرة باعوا البيوت مرات ومرات، دون علم أصحابها!
وفي شرحها لقرار الإلغاء الذي ذكرناه ذكرت صحيفة الثورة السورية، نقلاً عن معاون مدير المهن والرخص في محافظة دمشق "أن إلغاء الموافقات الأمنية تتبعه مراقبة لاحقة لجميع إجراءات وخطوات الحصول على التراخيص، أي أن المواطن يُمنح الرخصة، ويزاول عمله، وبالتالي يتم تعميمها على الجهات الأخرى، التي كانت تتدخل وبشكل مباشر في الحصول على الرخصة قبل منحها للمواطن"، والمقصود هنا بالجهات الأخرى هي الأجهزة الأمنية المعنية، وهذا يعني أن المثل الشعبي: "تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي" ينطبق تمام الانطباق على قرارات إلغاء الموافقات الأمنية!
وكما يعرف السوريون فإن شرط الحصول على الموافقة الأمنية لا يقتصر على المدنيين السوريين، بل إنه شرط لازم في الحياة العسكرية، ولا يمكن لضابط متطوع أن يترقى من رتبة إلى أعلى دون موافقة الأجهزة الأمنية، وهذه لا تعطي موافقاتها -خاصة في الانتقال من رتبة عميد إلى رتبة لواء- إلا لمن يقدم لها (خدمات جليلة!!) تملأ معتقلاتها بأبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم نسوا -مثلاً- التصفيق عندما ذكر اسم حافظ الأسد في احتفال ما!!، ولذا فإن قلة من ضباط الطوائف غير العلوية من ترقى في خدمته إلى مستوى لواء أو عميد في جيش حماة الوطن، الذي نتلقى اليوم عطاياه براميل متفجرة، وتعفيشاً وتدميراً وسلخ جلود أطفالنا!
حتى عندما يموت السوري فإنه كان يحتاج إلى موافقة أمنية، وهذا ليس على سبيل التندر؛ إذ لا يمكن لمطبعة في ثمانينيات القرن الماضي، أن تطبع نعياً لميت، إذا لم يؤمن أهله الموافقة الأمنية المطلوبة.
إن ربط حياة السوريين بالموافقة الأمنية كان له كبير الأثر في تهميش دور مؤسسات الدولة، وإفراغها، وفي تنشيط حالة الفساد وتعميمها، وإلغاء قاعدة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، واستبدالها بقاعدة "وضع المرضيّ عنه أمنياً في المكان الذي يريد"!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.