نكبة فلسطين الثانية؟

قد شكل تطور الأحداث التي واكبت النكبة بعد ذلك فهم إضافي لتعريف النكبة تتمثل في حالة التشرد الفلسطيني وهي فعل لا يمكن فهم سياق النكبة دون المرور عليه وفهم تفاصيله والمآلات التي أسهمت لغاية يومنا هذا بتفريق هذا الشعب وتقسيمه إلى مجموعات.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/11 الساعة 04:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/11 الساعة 04:08 بتوقيت غرينتش

تُرفع الأقلام بعد ذكرى النكبة الذي يصادف 15 مايو/أيار من كل عام كأنما "نكبة الفلسطينيين" تقتصر على يوم واحد، ففي كل عام يستذكر الفلسطينيون ذكرى أحداث "النكبة" مُعتمدين وبعد مرور 68 عاماً على ذاكرة جماعية يتناقلها الأجداد للأبناء والأحفاد؛ حيث تخلو هذه الذاكرة من أرشيف يحاول تأطير فهم النكبة وفق أسس تاريخية وسوسيولوجية وسياسية جامعة تبحث في تشبيك مصادر المعلومات المختلفة والمتاحة لتأريخ هذه الرواية الهوياتية بشكل يسهم في بناء روح نضالية فلسطينية تضمن بلورة تفكير جماعي فلسطيني يدحض الرواية الصهيونية.

لا شك في أن استذكار نكبة الشعب الفلسطيني إنما هي حالةٌ ترتبط بذاكرة حَيةٍ مُلهمة لهذا الشعب يَصعُب من خلالها فهم هذه العلاقة الجدلية لشعبٍ خسر حرباً وتم طرده وتهجيره من أرضه وممارسة الاضطهاد العرقي بحقه، ولا يزال ينقل روايته لأبنائه وأحفاده ويكرس في وعيهم الحفاظ على نقل هذه الرواية وتأصيلها ضمن البناء الوجودي لهذا الشعب.

وانطلاقاً من ذلك لا شك أن أي مسعى لفهم أحداث "النكبة أو الكارثة" الفلسطينية لا يرتبط فقط بحالة التهجير التي حلت بهذا الشعب في عام 1948، إنما يمتد ذلك إلى تأثير هذه الممارسات على حال الفلسطينيين في يومنا هذا مع الأخذ بعين الاعتبار البُعبع الديمغرافي والجغرافي وأثرهما الزمكاني على أحداث النكبة.

وعلى ذلك، فإن نكبة الفلسطينيين ما هي إلا مجموعة من الممارسات المستمرة والمرتبطة بقتل وإخلاء وطرد، وإحلال مواطنين محل مواطنين أصليين، وتشريد وترحيل المواطنين الفلسطينيين من أرضهم والاستيلاء عليها من قبل المُحتل، ومن جانب آخر لا بد من تغليف ذلك في سياقين وسيكون أي تناول للنكبة ناقصاً دونما فهم وربط الأحداث بهذين السياقين المتلازمين والمؤسسين للفعل، هما ترحيل وطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، والثاني ترحيل وطرد اليهود من كل بقاع العالم إلى فلسطين.

حيث إن ارتباط السياقين لا يمكن فهمهما دونما قراءة وتأريخ وتعريف سياق الممارسات التي بدأتها العصابات الصهيونية في عام 1907 عندما أخلَت وشردت ما يقارب من 60 ألف فلسطيني من أرضيهم في قرية مرج بن عامر، ولا شك أن للثورة الفلسطينية التي انطلقت في عام 1936 وما تلاها من احتجاج وإضراب ضد سلطة الانتداب البريطاني رداً على تزايد هجرة اليهود إلى فلسطين ساهم بأن تكون لهذه الثورة أثر رئيسي في تشكيل وبناء صيرورة الحرب التي خاضتها العصابات المسلحة ضد الفلسطينيين في عام 1948.

وهذان الحدثان يسهمان في فهم أن الكارثة والنكبة التي حصلت لم تتوقف عند حالة الإخلاء والتشريد إنما تطورت لتصبح عملية إحلال لمواطنين محل المواطنين الأصليين كما وصفها "إيلان بابيه" بأن النكبة ما هي إلا عملية تطهير عرقي حصلت في عام 1948، وفي نفس الإطار لا بد هنا من فهم تزايد أعداد هجرة يهود العالم إلى فلسطين ضمن السياق التأسيسي في فهم النكبة؛ حيث مثلت هجرة اليهود فرصة للسيطرة على الأراضي العربية ونقلها إلى اليهود وبناء المستعمرات في تلك الأراضي منذ بدء فعل الترحيل والطرد.

ولا شك هنا أن تأسيس "دولة إسرائيل" في يوم نكبة الفلسطينيين وقيام حكومة الاحتلال بعد ذلك وفي عام 1950 باستصدار "قانون العودة" الذي ينص على أن "لكل يهودي الحق في العودة إلى البلاد كيهودي عائد"، وكما تلا ذلك إصدار قانون الجنسية الإسرائيلية وذلك في عام 1952م الذي نص على "إعطاء الحق لكل يهودي يهاجر إلى إسرائيل بالحصول على الهوية الإسرائيلية" وقد رافق ذلك تشجيع الوكالة اليهودية للهجرة وتنظيمها والاهتمام بأمور المهاجرين عند وصولهم إلى البلاد، مما ساعد على ارتفاع هجرة اليهود إلى فلسطين، كل هذه عوامل تدعم أن فهم النكبة لا يكون إلا في سياقين متلازمين.
وقد شكل تطور الأحداث التي واكبت النكبة بعد ذلك فهم إضافي لتعريف النكبة تتمثل في حالة التشرد الفلسطيني وهي فعل لا يمكن فهم سياق النكبة دون المرور عليه وفهم تفاصيله والمآلات التي أسهمت لغاية يومنا هذا بتفريق هذا الشعب وتقسيمه إلى مجموعات.

ومن ضمن هذه التفاصيل تجد أن حالة التشتت منقسمة، فهناك مجموعة تعيش داخل سجن كبير وهم الفلسطينيون الذي يقطنون في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، ومجموعة أخرى تعيش الاضطهاد والميز العنصري وهم العرب الفلسطينيون الذين يعيشون في داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وبقية المواطنين الذين وجدوا في دول الشتات العربية وغيرها ملاذً صعباً لغربتهم وحرمانهم من حقهم الرئيسي وهو العودة.

وفي سياق فهم صحيح وحقيقي لتطور تعريف النكبة الفلسطينية نجد أن حالة المخيم وهي تجمع بشري في إطار منطقة جغرافية بنى فيها الفلسطينيون ذاكرتهم ووعيهم النضالي الحي لأحداث النكبة الفلسطينية لا يمكن فهم سياق النكبة دونما المرور على هذه التجربة التي تمثل حالة المنفى لفلسطيني صُبغ بتعريفه كلاجئ.

فحالة اللاجئ في السياق الفلسطيني فريدة؛ حيث ترى لاجئاً يعيش على مقربة من وطنه الأصلي الذي هُجر منه، ولكنه لا يستطيع زيارته، وترى لاجئاً يعيش حالة الميز العنصري بينما يناظر مستعمرة إسرائيلية قريبة منه ويرى أطفالها يلعبون ويمرحون وهو يعيش صراعاً من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وترى لاجئاً غُرب عن وطنه وعاش نكبته مرة عندما طُرد ومرةً عندما أصبح أسيراً لتناقضات سياسية، وهنا نجد أن حالة المخيم لا يمكن وصفها إلا أنها منتج نكبوي وكارثي واستكمال لحالة انسداد الأفق السياسي والاقتصادي.

وعلى ذلك تبقى أي محاولة لفهم وقراءة تطور صيرورة النكبة الفلسطينية تحمل جانباً مظلماً في حال الوقوف فقط عند ما جرى في عام 1948 وتجريدها من سياقها السياسي والاجتماعي والتاريخي، ولا سيما أن ذلك ما هو إلا طمس للوعي الفلسطيني في حال عدم تأطير ذلك ضمن حكايات رواها الأجداد وحفظها الأبناء في أرشيف فلسطيني يعتمد على بعض قصاصات الوثائق الفلسطينية، وما هو خارج إرادة الفلسطيني الأعزل هو أن أي محاولة تأريخية تتطلب المرور على الأرشيف البريطاني و"الإسرائيلي" وإلا ستبقى منقوصة.

ولهذا فإن استمرار الاعتماد على ذاكرة الأجيال له تأثير هوياتي خطير، ومن المحتمل أن يتأثر هذا الوعي مع الأجيال القادمة؛ لأن تراكم الممارسات وتزايد الصعوبات سيؤدي إلى فقدان جزء رئيسي من النضال الهوياتي الوجودي الفلسطيني، وهنا لا بد من التأكيد على أن النكبة الثانية هي ذلك اليوم الذي نبقى فيه معتمدين على ذاكرة الأجيال فقط.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد