جاء منادٍ من قِبل "أبلة الناظرة" يطلب من الطفلة الصغيرة أن تجمع أغراضها وتترك صويحباتها في الفصل الدراسي وتأتي لمكتبها، كانت لـ"أبلة الناظرة"، و"أستاذ صبري" سلطة كبيرة جداً، هما تلك السيدة وذلك الرجل اللذان يأتمر الجميع بأمرهما في الطابور، يتحدثان في الميكروفون فيعلو صوتهما الجهوري ليسمع الجميع.
"أبلة الناظرة وأستاذ صبري" تمتمت الصغيرة بصوت خفيض، وارتجفت فرائصها، جمعت حاجياتها واستسلمت للأمر وسارت مع المنادي.
.. "اذهبي إلى البيت، أخبري أباك أنك ليس لك ملف في المدرسة، ملفك ضائع، وعليهم أن يجدوا لك ملفاً، وإلا لا تأتي مرة أخرى".. قال الأستاذ بصوته الأجش تقف بجواره الأبلة.
كانت أختها التي تكبرها بسنوات تقف إلى جوارها بعد أن استدعتها أيضاً الناظرة، فكرروا المعلومات للكبيرة وهي تهز رأسها سمعاً وطاعة، وخرجت الطفلتان نحو الباب الحديدي.
– "ماذا أفعل؟".. سألت الصغيرة.
– "روَّحي".. قالت الكبيرة، ثم أضافت: "تعرفي تروّحي لوحدك؟".
– "نعم أعرف، ولكن هل أذهب وأخبر أبلة المفتشة بالأمر؟، أمي قالت أن أفعل هذا؟!".. سألت الصغيرة: "لا فقط اذهبي إلى البيت".. قالت الكبيرة.
وانسرب ذلك الكائن الصغير من الباب الحديدي الذي يتحكم فيه ذلك الفراش الرفيع الشرير الذي كان يمنع الأطفال بحزم وبعصا مقطوعة من شجرة كبيرة من الدخول قبل الموعد الرسمي.
خارج الباب.. كان هناك طريقان؛ يمين يؤدي إلى البيت.. وشمال يؤدي إلى "أبلة المفتشة"..
شعرت الصغيرة بغبن وألم.. بسنواتها الست وفطرتها التي فطرها الله عليها، أحست أن هذا ليس "حق" بأن يخرجوها من بين صويحباتها وأن يتركوها وحدها "تروّح".
في الطريق الطويل إلى البيت وهي التي أتت دائماً في صحبة أبيها وذهبت في صحبة شقيقتها، عتبت على شقيقتها التي كانت في العاشرة من العمر، لماذا تركتها تذهب لوحدها؟ لماذا لم تكن أبلة الناظرة رحيمة بها وتتركها تكمل اليوم الدراسي ثم تذهب في نهايته مع شقيقتها وتخبر أمها؟ لماذا "تطردها" أبلة الناظرة في نصف اليوم؟ وماذا ستقول عنها رفيقاتها الآن؟ ماذا فعلت؟ هل يضحكون سراً عليها الآن؟
لذلك أخذت خطوات الصغيرة "الطريق الشمال".. طوت بخطواتها الصغيرة طريقاً كان قريباً، كان يفصله سور قصير.. عن باب حديدي آخر؛ لتقابل حارساً آخر، أخبرته أنها تريد أن تقابل "أبلة فاطمة المفتشة"، تلك السيدة السمراء التي عرفتها من قبل عندما ذهبت مع والدتها لتشكو من بطش الناظرة المتجبرة، والمدرسة التي أضاعت الملف.
دخلت الصغيرة من باب لباب وانتظرت وقالت!
فأجلستها أبلة المفتشة في ركن منزوٍ من الحجرة واستدعت "أستاذ صبري"، ذلك الوحش الكاسر الذي كان صوته يهدر في الطابور فيهذب سطوة الصبيان المشاغبين والفتيات الطويلات التي ما كانت الصغيرة تطَال ركبتهن في فسحة اليوم، أتى ليعرف أن طفلة الست سنوات "اشتكته"!!!
.. تذكر الصغيرة جيداً أنها جلست صامتة، دون أن تبكي، وأستاذ صبري يهدر بصوته لائماً أم الصغيرة؛ لأنها أضاعت الملف.. انتظرت الصغيرة واستمعت، كان قلبها لا يكف ثانية عن الابتهال إلى الله بأمر واحد، فقط أن تعود إلى فصلها وتتمكن من أن تذهب في نهاية اليوم إلى المنزل مع شقيقتها، في النهاية الطريق إلى المنزل طويل، وهي لا تريد أن تسيره بمفردها.
غير أن الوحش الكاسر أصر على "لا ملف لها ولن تعود إلى المدرسة".
فقالت أبلة فاطمة كلمتها: "إذاً سوف آخذها عندي في المدرسة".
.. وقع قلب الصغيرة في قدميها.. "ما معني هذا؟ لن أكون مع أختي في المدرسة؟ هل تضربني أمي لما فعلت؟"
نادت أبلة فاطمة مدرسة أخرى وطلبت منها أن تأخذ الصغيرة لتكمل اليوم الدراسي في أحد فصول سنة أولى.. وهنا انسكبت صنابير السماء من عيون الصغيرة وهم يقودونها لفصل آخر وأطفال آخرين لا تعرفهم، ومدرسة لا تعرف فيها أحداً، والأهم ليس بها شقيقتها.. ولكن كانت السماء رحيمة فأرسلتها إلى فصل ترأمه "أبلة إلهام".
تذكر الصغيرة أنها ظلت تبكي وتبكي وكانت جارتها الصغيرة الأخرى لا ترحم هذا البكاء فتسألها في إصرار: لماذا تبكي؟ وأين أمها؟ وهي لا صوت لديها لتجيب، تذكر أنها لم تحتمل فاشتكت الصغيرة الأخرى اللحوحة، فعاقبت الأبلة الأخرى، فأحست الصغيرة الأولى بارتياح الضعفاء أنها أيضاً تستطيع أن تتسبب في إيذاء آخرين.
.. للمفارقة.. كان اسم المدرسة الجديدة هو "محمد فريد" وكان اسم المدرسة الأولى، التي بقيت فيها شقيقتها، والتي غادرتها شقيقتها الكبرى من قبل إلى الإعدادية، "مصطفى كامل".
.. وللمفارقة أخذ القدر الشقيقات الثلاث كلاً في طريق.. وللمفارقة سارت المسارات في طريق الأسماء.. ناضلت الصغيرة منذ ذلك العمر حتى النهايات.. أما الشقيقة التي لم تساند شقيقتها وآثرت السلامة مع الناظرة الباطشة فقد سارت سيرها في طريق حياة آمنة.
تصبح السنوات الست.. ست عشرة.. ثم ستاً وعشرين .. ثم ستاً وثلاثين.. تقابل الصغيرة جبابرة وباطشين، تتحقق بعض الأحلام وتفر أخرى.. تطول طرق وتقصر أخرى.. تتراكم السنوات في القلب ويخفت الشغف، أو يزيد، وتنحت الطرق الطويلة آثارها على الأقدام التي لم تعد صغيرة.
لكنها دون حيلة لها، تظل تستمع دوماً لذلك الصوت الخافت الواهن القادم من هناك.. من حيث فطر الله القلب ومضغته.. أن هناك طريقاً للحق واضحاً جلياً سوف يقول الجميع عنه: "لا تذهبيه، اذهبي يميناً، عودي سالمة إلى البيت"، بينما هي دائماً وأبداً، وبرغم وعورة الطريق ووحشته، سوف تختار دائماً أن تذهب.. شمالاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.