لم يخف على أحد من العالمين رحيل الملاكم الأميركي ذي الأصول الإفريقية محمد علي كلاي في أميركا بعد معاناة مع المرض ظل طويلاً أكثر من 30 سنة، نعم لقد ترجّل الفارس.. فارس الحلبات وقاهر الأبطال والسادات، نعم لقد رحل عنّا هذا الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، هذا الذي وقف وقال لأميركا: لا، وصدح بحق وبكل اعتزاز ما يعتنقه من أفكار ومعتقدات، وقد شرّق وغرّب في سبيل مبادئه الإنسانية المحضة دون أن يشهّر سلاحاً ولا يقذف قنبلة ولا يزرع عبوة ناسفة، نعم لقد رحل هذا الرجل الذي كان حديث العالم في هذا الأسبوع، كيف لا، وقد كان يعبر عن الضعفاء والمقهورين والمظلومين في كل مكان، واستغل حضوره العالمي لتذكير الإنسانية أن الحياة تسع الجميع لا فرق بين جنس وجنس ولا إنسان وإنسان، فعلاً كان الرجل يحمل تلك الرسائل التي لا تزال كل أمم العالم تكافح من أجلها وما زال الطريق طويلاً، وما زالت العنصرية والعصبية تطحنان بلداننا وخاصة في عالمنا الإسلامي اليوم.
حين بكت البشرية علي كلاي
لا أعرف شخصية بكتها الدنيا مثل ما بكت هذا الرجل وقبله طبعاً زعيم جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا محرّر جنوب إفريقيا.
ما يثيرك في محمد علي كلاي قوة حجته في الدفاع عن نفسه ومعتقداته وإلزام كل أميركا، أن تتبنى اسمه الجديد بل وإجبار خصومه الذين يرفضون ذكر اسمه الجديد بأنه سيرغمهم على ذلك في حلبة الصراع وفعل ذلك عدة مرات مع خصومه.
المهم أن الرجل بقي متشبثاً بانتمائه الديني، وأكد عليه في كل مقابلاته التلفزيونية والإذاعية ولم يخجل في ذلك قط ولو للحظة.. في وقت كان مسلمون يخجلون من أسمائهم فكان الرجل يصر ويحاور ويقرر ويفرض.
كلاي واعتزازه بدينه..
الشيء الآخر المهم أن تمسكه الديني واعتزاز بربه واعتماده عليه لم يبدأ مع مرضه، وإنما جاء قبل أن يمرض وبعد إصابته بالمرض عرف أن الله يريد أن يبتليه ويمحصه وعلم أن الإيمان بالقدر خيره وشره من أصول الإيمان، فاستسلم وتوكل لم يبكِ على حاله ولم يحاول الاعتزال لأنه أصابه ما أصاب.. لكن واصل طريقه ونضاله، إذ كان قد خرج من ميدان الملاكمة لميدان الأعمال الخيرية.. لقد سافر الرجل لكل أنحاء العالم وزار كل الشعوب وخاصة الشعوب المقهورة رغم مرضه الجسدي الخطير.. واستوقفني موقفه حين استجاب لأحد المذيعين أنه جاء تلبية لئلا يقع في الكبر، إذ لم لمذيع مثله أن يحلم بمقابلته فاستجاب لأن الجنة لا يدخله من كان في قلبه كبر.
كلاي مدرسة أخلاقية خاصة
إن محمد كلاي علي مدرسة أخلاقية كبيرة ينبغي أن تدرس بجدية في مراكز البحوث، وأن تنشر حياته حتى يستفيد من ذلك طلاب العلم والجيل الجديد، وحقيقة لم أكن أعلم أن الرجل له هذا القبول العالمي والنحيب الإنساني الذي نيح به الرجل منذ وفاته إلى الآن.. فقد عزاه القريب والبعيد والعدو والصديق حتى الذين نازلهم تحدثوا عن دماثة الخلق وطيب العشرة وحتى من الذين نظن أنهم يكرهون الإسلام والمسلمين كالمرشح الأميركي/ترامب وجورج بوش ومارين لوبين وكل العالم، إنه مشهد لا يتكرر كثيراً في أي قرن.
كلاي.. والابتلاء المرّ
عندما كنت أقرأ تاريخه وأرى هذا التعاطف العالمي لوفاته فإنه يرتسم في وجهي بوادر الأسى لأن الرجل لم يواصل مشواره الإنساني كما ينبغي أو يتوقع من أمثاله بسبب قسوة الابتلاء الذي نزل عليه، لكن ماذا نقول أمام القدر، وماذا علينا إلا أن نقول قضى الله وما شاء ونستسلم ونرضى، فإنه الله الذي خلقه هو كان أرحم به منا ربما من أجل أن يطهره تطهيراً بكل هذا البلاء وهو درس لأهل الابتلاء والمؤمنين أن الإنسان لا يتنازل عن مبادئه وإن طحن بمطحنة الابتلاء أو نشر بالمنشار، إن الرجل نفحة إلهية أرسلها الله لكي ينظر العالم إلى عباده الذين اصطفاهم بالبلوى ولكنهم رضوا عن الله ورضي عنهم سبحانه حتى آخر نفس من حياتهم إننا لا نزكي الرجل على الله لكن هذا ظننا فيه.
هل تردّد ملك الموت في قبض روحه؟!
تروي ابنته في اللحظات الأخيرة أن الجسد الذي أنهكه الابتلاء توقف عن التحرك وبعد خروج الروح، ظل القلب يتحرك لـ30 دقيقة، لا أدري كيف أفسر موقفاً كهذا لقد استوقفني الموقف، فلماذا هذه الميتة المثيرة؟ ولماذا تأخر توقف ملك الموت عن إيقاف القلب؟! ولماذا تواصلت الضربات؟ هل هو ثقل الموقف؟! أم أن الملائكة كانت تتأسى على وفاته وأعتقد أنه كما بكته الأرض والبشرية لقد بكاه أهل السماء.. طبعاً هذا ليس تفسيراً سياسياً والله أعلم.
تأبين عالمي وإسلامي للعملاق
نعم حقّ لرجل في هذا المستوى أن ندعو إلى اقامة صلاة الغائب عليه، فمثل هذا النوع البشري لا يتكرر كثيراً في التاريخ، فهنيئا له كل هذا التعاطف العالمي من كل أنحاء العالم، وهنيئاً لأولئك الذين عقدوا العزم للمشاركة غداً في حفل تأبينه وأخصّ بالذكر رئيس تركيا رجب طيب أردوغان، وسيكون من العار لقادة العالم الإسلامي أن يغيبوا عن هذا المشهد المهيب أو يغيب ممثلوهم عنه، كما أن مشاركة الرئيس الأميركي/ باراك أوباما ستكون لها رمزيتها التامة؛ لأن هؤلاء هم من مهّدوا له الطريق لكي يصل اليوم إلى عرش أقوى دولة في العالم وهي أميركا.
وفاة كلاي وموقف دبلوماسيتنا الموقرة
وهنا لا بد من رسالة للجميع، منذ أيام فاجأنا خبر أن دبلوماسيا من دولة ما حيث صرح أن الأفارقة كلاب وعبيد، وكأن الله عز وجل يقدّر أن يموت هذا الرجل في نفس التوقيت ليكون لنا درساً أن الذين يعتقدوننا عبيداً هم هم الذي يصنعون التاريخ اليوم كما فعلوه من قبل حين كان خير مضياف لصحابة لأكثر من عشر سنوات، وهي البشرية تطوي صفحة جديدة من صفحات تاريخ رجل ناضل من أجل الحرية وحقوق الإنسان وكلفه ذلك الجوائز التي حصل عليها لأنه أبى وواجه وحده أميركا في حربها ضد الفيتنام في السبعينات، ولم يرد قط أن تلطخ يده بقتل إنسان مسالم بريء مما يقال، وصمد رغم كل الإغراءات وظل رجلاً واقفاً على قدميه متحدياً كل الأمراض وموقداً الأمل في النفوس التي كادت أن تيأس من أن للحياة معنى وأن للإنسانية طعماً أحلى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.