أضاءت أنوار القاهرة الساطعة، ودقت أبواق السيارات فرحاً وتهللاً بالثالث من يوليو/تموز منذ ثلاثة أعوام بعد عام قضته مصر في معاناة من قمع الديمقراطية وفرط الحرية اللامحدودة، والمعارك الانتخابية التي استغلها البعض سلماً للوصول إلى السلطة، وبدت الصورة كما لو أن مصر العسكرية ستفيض لبناً وعسلاً على الجميع، وأن أبواب السماء ستنزل بخيرها مطراً على رؤوس الناس دون تفرقة بين أحد، وبعد طول انتظار، نزلت قطرات المطر رويداً رويداً على هيئة كوارث جمة ومشاكل غير مسبوقة حتى وصل الأمر إلى أن أصبحت مصر شبه دولة في شتى المجالات.
فعلى المستوى السياسي، تنفرد مصر بتطبيق نظام ديمقراطي عبقري لا مثيل في العالم، يرتكز على تحكم السلطة التنفيذية في السلطتين القضائية والتشريعية، في بلد الحضارة والعمارة، هناك برلمان لم ينتخبه إلا حفنة قليلة من الشعب، ولم يعرف الشعب دور هذا البرلمان حتى الآن، برلمان وافق على مئات التشريعات والقوانين بين عشية وضحاها؛ برلمان يناقش قوانينه داخل الأجهزة الأمنية والمخابراتية، ويصدر تشريعاته من القصور الجمهورية، وإذا ذهبت إلى منصة القضاء، لن يختلف الحال كثيراً؛ حفنة من القضاة يسهرون على راحة السلطة التنفيذية، ويقتصون لها ممن خرجوا عن نسق الدولة، وممن رأوا رأياً يخالف الدولة في سيرها ونهجها، نعم لدينا دولة مستقرة وهمياً ذات مؤسسات تديرها الأجهزة أمنية والمنابر الإعلامية لتخفي جبالاً من المشاكل والأزمات الكامنة.
أمنياً، ما زالت الدولة تحصد ثمار تفكيرها الأمني في التعامل مع القضايا الحساسة، فوقعت الدولة في مستنقع شديد في سيناء خلال حربها ضد الإرهاب، في بلد لطالما عرف بالأمن والأمان على مر التاريخ، قضى المئات من الجيش والشرطة نحبهم على مدار ثلاث سنوات في الحرب ضد الإرهاب؟ لكن هل توقفت الدولة لحظة لتفكر في هوية هؤلاء الأشخاص الذين يحاربون الدولة والمجتمع؟ وما الذي دفعهم إلى ذلك؟ وهل التعامل الأمني وحده كافٍ لعلاج تلك المعضلة الكبيرة أم هناك طرق أخرى سياسية واجتماعية وتنموية؟ وكيف لدولة لا تستطيع حماية جنودها أن تعد مواطنيها بالأمن والأمان؟
على صعيد الأمن والسلم المجتمعي، طفت على السطح جرائم جنائية بدا فيها أن بعض الناس لم يعد يلقي بالاً بقوانين الدولة ونظامها وهيبتها، فظهرت حوادث القصاص المباشر دون اعتبار للنظام القانوني للدولة وإجراءات تحقيق العدالة، وكيف للناس أن يحترموا قانوناً لدولة داست القانون بأقدامها وسيرت منصة العدالة حسب أهوائها، فلا أمن تحقق ولا أمان ساد.
عن الحريات الفردية والسياسية، يكفي القول بوجود عشرات الآلاف من المعتقلين من الشباب والنساء والأطفال دون ذنب ولا جريرة، ناهيك عن السيطرة الحكومية عن وسائل الإعلام العامة والخاصة وإعلام الصوت الواحد الذي يتحدث بلسان الدولة ويدافع عما تراه صحيحاً، فأين الأصوات الرنانة التي لطالما ملأت شاشات الإعلام بالشجب والنقد وحقوق الإنسان وحرية الإعلام قبل الثالث من يوليو؟
لكن الظروف الاقتصادية هي الأسوأ في عمر الدولة المصرية الحديثة، فما زال الدولار يسابق الجنيه في سباق لا نهاية له، حتى وصل إلى مستويات غير مسبوقة، ولا تكاد السياحة تخرج من مأزق حتى تدخل في غيره جراء انعدام الأمن وحوادث الطائرات المتكررة. أضف إلى ذلك، هروب الاستثمارات الخارجية الكبيرة وارتفاع الدين الحكومي إلى أضعاف مضاعفة وعجز الميزانية وارتفاع نسب البطالة. فأين الوعود البراقة بالعيش الكريم والازدهار غير المسبوق.
وسرعان ما ضاعت الأحلام بين سراب المشاريع القومية الكبرى، بدءاً من إعلان الدولة عن اكتشاف جهاز جديد لعلاج فيروس "سي" والإيدز حتى الإعلان عن زراعة مليون ونصف المليون فدان في بلد يعاني من نقص المياه، وسيواجه مشكلة مائية خطيرة قريباً، وما بين ذلك وتلك، احتفرت الدولة قناة جديدة بالسويس زعمت أنها ستجلب الخير لمصر، وما هي إلا شهور مرت حتى تبخرت الأحلام، وانخفضت إيرادات القناة القديمة بسبب الركود العالمي في حركة التجارة البحرية، وما زالت العاصمة الإدارية الجديدة حبراً على ورق، شأنها شأن المشروع القومي للإسكان الذي أعلنت عنه الدولة المصرية ثم تراجعت عنه سريعاً.
أما قضايا الأمن القومي، فقد فشلت الدولة في التعامل مع أزمة سد النهضة وأهدرت الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل، إلى جانب التفريط في المياه الإقليمية بالبحر المتوسط لصالح قبرص وإسرائيل، وما زالت الدولة المصرية تواجه صراعاً حدودياً خطيراً مع السودان على مثلث حلايب وشلاتين، وما زاد الطين بلة، تنازل مصر عن جزيتي صنافير وتيران لصالح المملكة العربية السعودية، علاوة على ذلك، تدهورت سمعة مصر الدولية إزاء قضية مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني في مصر.
داخلياً، ازدادت وطأة الفقر بين جموع الشعب في مصر على أثر الإجراءات الحكومية الهدافة إلى رفع الدعم الحكومي عن الطاقة والمياه والتموين، إلى جانب ارتفاع أسعار السلع الغذائية وغيرها من السلع الضرورية نتيجة انخفاض قيمة العملة المحلية الجنيه في مقابل الدولار الأميركي، وزيادة التضخم وتقلص الاحتياطي النقدي الأجنبي اللازم لتلبية احتياجات الدولة المصرية من صادرات ضرورية، فأين حُنوّكم الموعود ورفقكم الزائف على الشعب المقهور؟
هذه هي مصر الآن، وبعد وقت قليل قد تصبح بلداً لا نعرفه، لكنها كما يزعمون أفضل حالاً من سوريا والعراق! يبقى في النهاية أسئلة ملحة: هل تسير مصر في الطريق الصحيح؟ وهل تستحق مصر حكماً ديمقراطياً في الوقت الراهن في ظل تفشي الأمية بين ثلث المصريين على الأقل وثلث آخر لا يعرف من الديمقراطية إلا اسمها؟ وهل تستحق مصر كل هذه التضحيات من القلة الواعية من خيرة رجالها وشبابها ونسائها التي لا تريد سوى الخير للبلاد؟ وأخيراً هل سيحدث التغيير قريباً أم سيتعين علينا الانتظار فترة ربع قرن أخرى حتى نرى انفراجه في الوضع السياسي والاجتماعي والإنساني والاقتصادي في مصر؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.