عندما تسأل أحدهم: "ما هي أجمل أيام حياتك؟"، قد يتبادر إلى ذهنه مباشرة إجابات مثل: "فترة الخطوبة"، أو "شهر العسل"، أو "يوم التخرج"، أو "رحلة سياحية" وغيرها… لكن أن تكون الإجابة هي "أيامي في حفظ القرآن الكريم"، فقليل من الناس من ستجد عنده هذه الإجابة.
ما زلت أذكر تلك اللحظة حين أنشدت لي إحدى صديقاتي عند ختمي للقرآن الكريم أنشودة معروفة قامت بتحويل كلماتها لتلائم المناسبة فقالت: "أحلى أيامك وين؟ وين قضيتيها؟ راحت بغمضة عين، يا محلا ذكراها… أيام مع القرآن، من البقرة وآل عمران ، ياسين إلى الرحمن، وعد لا تنسيها….".
حينها لم أفهم لماذا تنشد لي مثل هذا الكلام، وفي هذه اللحظة لم أكن أعلم أنني فقدت أجمل أيام حياتي!
ففي خضم فرحة الاحتفاء وفرحتي بختم القرآن لم أدرك أنني خرجت من مرحلة جميلة جداً لا عود إليها هي مرحلة "الحفظ"، فهي مرحلة يعيش فيها الإنسان مع القرآن بجميع جوارحه، فيقرأ بعينيه ولسانه ويفهم بعقله ويعي بقلبه ويعيش المعنى بإحساسه؛ ليجد نفسه بعدها في عالم علوي من التأمل، ومن الارتقاء والسمو بالنفس وكأنه قريب من ربه أشد القرب يتخاطب معه فيكلمه ويستمع إليه، وما زالت تلك الأنشودة تتردد في ذهني، وقد مضى عليها أكثر من 15 عاماً، وما زلت أحن لتلك الأيام التي قضيتها في الحفظ، وما زلت أفهم معناها يوماً بعد يوم.
صحيح أن بعد مرحلة الحفظ عشت مع القرآن مراحل أخرى، كمرحلة المراجعة وبعدها مرحلة التعليم والتحفيظ وبعدها مرحلة جمع القراءات العشر، لكن ما وجدت متعة ولذة في أي منها كتلك التي وجدتها في مرحلة الحفظ الأول، تلك المرحلة التي أخذت معي 5 سنوات، بدأتها من السنة الجامعية الثالثة، وأنهيتها وقد كان لدي طفلة بعمر عام ونصف.
فكيف أخذت قرار حفظ القرآن الكريم؟ وكيف وصلت للهدف؟
البداية كانت من سؤال أتى على بالي مرة، وكنت حديثة عهد بالالتزام الديني، وبقي يجول في خاطري إلى أن وجدت له جواباً، السؤال هو: "ما هو الفعل الذي إذا قمت به في الدنيا ضمنت به حماية نفسي من عذاب الآخرة؟"، لقد كان عندي إصرار على إيجاد هذا الأمر كي أقوم به، إلى أن وقعت على الحديث التالي: "اقرءوا القرآن، ولا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة، فإن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن"، فقررت أن يكون قلبي وعاء للقرآن الكريم.
عزمت أمري وتوكلت على الله، وكنت أعلم أن هذا المشروع ليس بالأمر بالسهل، وتوالى التيسير من الله تعالى فوضع في طريقي أشخاصاً أعانوني وأمسكوا بيدي في هذا الطريق، معظمهم من كبار الحفظة والجامعين لكتاب الله في بلاد الشام، ثم كان تتويج هذا التيسير بأن أتعرف على زوجي وهو مدير لدار تحفيظ للقرآن الكريم وحافظ لكتاب الله، فكان لي بعد الله خير معين.
مررت في هذه الفترة بكثير من الظروف الحياتية المتقلبة بين المشقة في سنة التخرج والتحدي في أول عمل وظيفي والتشتت الذهني في فترة الخطوبة والتغيرات الاجتماعية في أشهر الزواج الأولى والوهن في فترة الحمل والولادة، وما بعدها… لكن الإصرار في الوصول للهدف مع التوكل على الله يسهل الصعب وييسر العسير.
أحبائي..
نحن المسلمون لدينا كنز عظيم، طوبى لمن حظي به، واستثمر فيه فانتفع ونفع به، هذا الكنز هو كتابنا، القرآن الكريم.
دعوتي لكل مسلم ومسلمة، ومع دخول شهر رمضان المبارك، أن نتذكر بأن لنا كتاباً من أعظم الكتب، قراءته سكينة، وفهمه متعة، وحفظه لذة، والنظر إليه عبادة، كتاباً له حق علينا بأن نقرأه ونتدبره ونطبق ما فيه، كتاباً لو تواصلنا معه حق التواصل لعشقناه بكل ما للعشق من معاني التعلق والشوق وراحة النفس بلقاء المعشوق ووصاله.
ودعوتي لكل من حدثته نفسه بخوض تجربة حفظ كتاب الله ألا يتردد ولا يتأخر؛ بل أن يتقدم ويبادر بالحفظ، إذ ليس أجمل وأمتع من أن يجري الله كلامه على لسانك، فينساب بين شفتيك وأنت مغمض عينيك في خشوع وتدبر، فتشعر وكأن قلبك هو الذي يتلو هذا الكلام فتشعر به بكل جوارحك، وقد تتفاجأ بأن الله قد ذلل لك كل الصعوبات التي كنت تعتقدها عائقاً في طريقك، وستجد أن الله سيسخر لك أسباب التيسير من حيث لا تدري.
قد يجد البعض تعبيري شاعرياً، والبعض الآخر قد يراه مبالغاً فيه، لكنه والله ما هو إلا نزر يسير مما يمكن أن أقوله في هذا المقام، ولو سنحت الفرصة لكتبت في ذلك مقالات وكتباً، وما هو أكثر من حقيقة عشتها وعاشها بالتأكيد غيري ممن مروا بهذه المرحلة، فما وجدوا لها تسمية أكثر صدقاً وتعبيراً من: "أجمل أيام حياتي"!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.