يحار العقل في فهم واستيعاب الواقع الذي بتنا نعيش، فمجرد التفكير في مدى الانحطاط الأخلاقي الذي وصلنا إليه يجعلك تشعر وكأنك في عالم ماتت أحاسيس البشر فيه أو تبلدت، فلا وازع من دين أو خلق، أَعَيبُ هو في زماننا أم أن العيبُ فينا؟ هل نحن حقاً بشر أم أننا مخلوقات ليست من طينة البشر؟ كيف لمن كرم الله ونفخ فيهم من روحه، ثم أسجد لهم الملائكة أن ينحدروا إلى الحضيض، أو مراتب الشياطين، فيختارون الوضاعة بدل الرفعة، والذلة بدل المجد، والبهيمة بدل الإنسانية؟
رحم الله الشافعي إذ يقول: وليس الذئب يأكـل لحـم ذئـب … ويأكـل بعضنـا بـعـضاً عيـانـا
كيف لإنسان أن يرقص على أشلاء طفل ممزقة، أو أن يسخر من جائع أو مهجر؟ أهي ثقافة الوضاعة أم وضاعة الثقافة؟ أم ضحالة التربية وتفاهة المفاهيم التي نشأت عليها المجتمعات، أم أنها مدرسة الأم التي لم نحسن إعدادها فأعدت لنا شعباً سيئ الأعراق؟
ماذا يتبقى من الإنسان إن هو فقد خُلُقَهُ وإنسانيته؟ حتى أخلاق الجاهلية ماتت لدى البعض، فلا وازع من نخوة أو شهامة، ولا شرف أو كرامة! لقد صدق شوقي إذ يقول: إذا أصيب القوم في أخلاقهم …. فأقم عليهم مأتماً وعويلًا.
القيم لا تموت ولا تزول، وكذلك مبادئ الشرف والأمانة والكرامة والنخوة، لكن البشر هم من يختارون تركها، يختارون ذلك طائعين، وربما غافلين، يحدث هذا عندما يسود الانحطاط الأخلاقي، فيصبح ثقافة مجتمعية عامة، تستبيح كافة المحظورات التي نشأ عليها المجتمع، من التزام ديني وخلقي، وعادات أو تقاليد وقيم فاضلة، فتنشر وتعمم الإباحية الأخلاقية.
لا يمكن أن تصبح الإباحية الأخلاقية ثقافة عامة بين ليلة وضحاها، إنما هي نتاج عقود من الممارسات الفاسدة، منها ما هو عفوي ومنها ما هو ممنهج، فالفساد يبدأ من الأسرة، التي ينتج مجموعها نخباً اجتماعية، إما صالحة وإما فاسدة، وهكذا وصولاً إلى السلطة الحاكمة، التي تعتبر انعكاساً طبيعياً لحالة المجتمعات، وممثلاً لقيم وممارسات غالبية شرائحها الاجتماعية.
نخب مجتمعية فاسدة
عندما انطلقت ثورات الربيع العربي، كان من المفترض أن تكون النخب الاجتماعية، من دينية، وفكرية، وسياسية، وإعلامية، وفنية، في طليعة الشرائح الثائرة على الأنظمة المستبدة، وبحيث تتولى هي قيادة وتوجيه دفة هذه الثورات، وذلك انطلاقاً من مبادئ الثورة وأهدافها المتمثلة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، التي تعتبر الضامن الحقيقي، والبيئة المثالية لعمل وإبداع هذه النخب.
ما حدث هو أن غالبية هذه النخب، قد تخلفت وتأخرت عن الالتحاق بركب الثورة الشعبية، وفي كافة بلدان الربيع العربي، إلا في حالات فردية، لا يمكن القياس أو البناء عليها، الأمر الذي سبب حالة من الإحباط، وخيبة الأمل بهذه النخب، وهو ما أسهم بشكل كبير في فشل أو انحراف بوصلة هذه الثورات، وفي العديد من النواحي والمجالات، ليس لعدم وجود القيادات الكفؤة فحسب، ولكن لتآمر هذه النخب على ثورات الشعوب، وانخراطها في الثورات المضادة، وتبريرها لجرائم الحكام القتلة والمستبدين، أمثال الأسد والسيسي.
الكثير من رجال الدين الكبار وقفوا على الحياد، أو جَبُنوا عن قول كلمة حق في حاكم ظالم، في حين أن الكثير من أدعياء الفن الذين يعجز المقام عن ذكر أسمائهم، كانوا سنداً للمستبد وعوناً له.
فمن دريد لحام الذي قدس الخامنئي، ومنح جنوده القتلة رخصة طهارة لأرض الشام، فسقط في الحضيض، إلى رغدة التي تبرأت من أهلها في حلب وتعهدت بقص شعرها ونثره في ساحة الجابري، إلى الكثيرين غيرهم من رموز الفن الذين خدعت بهم الشعوب العربية كعادل إمام ويسرى والهام شاهين، وغيرهم من أرتيستات وراقصات ومقدمي برامج غصت بهم القنوات، حتى لم يعد لهم من مهمة سوى غسل عقول الناس وحشوها بتافه القول، والتسبيح بحمد المستبدين من الحكام.
أمتي كم صنم مجدته … لم يكن يحمل طهر الصنم
إعلام مأجور
الإعلام هو سلاح العصر الفتاك، وهو الوسيلة التي يستطيع من خلالها رجل الدين والسياسي والمفكر والفنان والصحفي والتاجر إيصال فكرته وبيع سلعته، وهو الوسيلة التي تغير القناعات والمفاهيم، لدى الجميع وبغض النظر عن مستوى ثقافتهم أو تحصيلهم العلمي، فالمهم هو الطريقة التي تسوق بها بضاعتك.
كيف نجحت السلطة الرابعة "الإعلام" في شيطنة الثورات والتمهيد للانقلاب عليها؟ وكيف بررت للمجرمين جرائمهم؟ ولماذا وجد جمهور يتقبل كل هذه التفاهات، التي تسوقها قنوات العهر والرذيلة، المحسوبة ظلماً على الإعلام، والمخصصة لهدم كل ما هو جميل في مجتمعاتنا من قيم دينية وأخلاقية؟ هل العيب فيها أم أن العيب في هذه القنوات؟
قبل أسابيع وفي الوقت الذي كانت فيه مدينة حلب تحترق وشعبها يذبح ويدفن حياً تحت الأنقاض نتيجة القصف الروسي الأسدي الهمجي الذي دك أكثر من 30 من أحيائها، خرج علينا أراجوز مصري من أدعياء الفن، يدعى "أحمد آدم"، لكنه لا يحمل من صفات الآدمية شيئاً، فسخر من الضحايا وحول مأساة شعب الى مهزلة ووصلة من التهريج الأقرب "للمجون" فهل كان هذا المهرج حالة خاصة، أم أنها ممنهجة مدروسة، ومن الذي يقف خلفها؟
"قناة الحياة" التي يملكها رئيس حزب الوفد المتهم بقضايا تبييض أموال، والتي ويدعمها في نفس الوقت رجال أعمال خليجيون، هي من قدم لنا هذا الإمعة، وهي نفسها التي قدمت آخرين غيره، ألم تقدم إلهام شاهين التي قالت: إن الرئيس السوري بشار الأسد يحارب مجموعة من الإرهابيين المرتزقة وليس شعبه، أليست هي التي وجهت ومن خلال برنامج "100 سؤال" على "فضائية الحياة"، رسالة للأسد قائلة: "ربنا يقويك وربنا معاك".
جميع هذه القنوات هادفة، فهي المنبر المأجور لأدعياء الفن والدين والسياسة، الذين حولوا الشعب السوري من ضحية، يقتل ويهجر، إلى مجموعة من الإرهابيين والمرتزقة المأجورين، الذين يقاتلون الدولة السورية، ويتلقون دعماً من هذه الدولة أو تلك.
السخرية من مأساة الشعب السوري لم تبدأ اليوم، فكثير من القنوات الفضائية حتى الكبيرة والمعروفة منها، اتخذت من اللاجئات السوريات سلعة لبرامج إباحية رخيصة، إما بغرض شد المشاهدين الى المحطة، وإما بغرض تشويه صورة اللاجئ السوري.
ليس غريباً أن توجد قنوات إعلامية تمتدح وتبيض صفحة من يدفع أكثر، وتذم أعداءه في نفس الوقت، لكن اللافت للنظر أننا بتنا أمام حالة عامة مستشرية، فلم نعد نرى قنوات حيادية تحترم مهنة الصحافة والإعلام وتنقل الحدث كما هو إلا ما ندر.
هل خطر ببال الشعوب العربية أنها تدفع، وستدفع ثمن صمتها عن مأساة الشعب السوري، وعدم وقوفها إلى جانبه، فهذا الصمت هو ما شجع بقية الأنظمة على التمادي في القمع والتنكيل بهم، وما هذه المسرحيات الهزلية، التي نشاهدها، إلا سياسة ممنهجة، تهدف إلى التقليل من حجم المأساة، وحرف صورتها، وتزوير حقيقة أن هناك شعباً يذبح منذ أكثر من خمس سنين، ثم يأتيك من يتخذ من مأساة هذا الشعب مادة للسخرية والتندر.
ما يميز جانباً كبيراً من فن اليوم وإعلامه، هو الوقاحة اللامتناهية في السرد وابتداع الكذب، وحتى في قضية الخروج عن المألوف، الذي بات يلقى رواجاً كبيراً وعلى عكس المتوقع، فحتى أقصى التطرف السياسي والديني بات مقبولاً، في حين أن الدعارة والمجون والإسفاف بات أمراً يجد من يتقبله بل ويشجعه، فأي غرابة بعد هذا؟!
إعلامكم عورة وفنكم سوءة فكفوا سوآتكم وعوراتكم عن أعيننا، فإنها تؤذينا.