جدارنا البرليني

على بقايا الجدار في برلين امتحنت وتأكدت من الكابوس الذين ظننته أنا وغيري ذات يوم حلماً، ومن شرفة تطل عليه تأملت كيف مدّه حافظ الأسد إلى حياتنا في دمشق، وكيف يحاول السوريون منذ نهاية السبعينات في القرن الماضي وحتى اليوم تحطيمه وهدمه واجتيازه نحو الحرية.

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/30 الساعة 02:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/30 الساعة 02:08 بتوقيت غرينتش

لزمن طويل وحتى لحظة مشاهدتي الأولى لما تبقّى منه، كانت صورة وأصوات الفرح باختراقه وتحطيمه التي شاهدتها في نشرة أخبار التلفزيون السوري ليلة 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989، هي الصورة الوحيدة التي بقيت في ذاكرتي لجدار برلين، ورغم أني فرحت ساعتها مع مَن فرح بتحطيمه، باعتبار ذلك إيذاناً بنهاية النظام الشيوعي، أحد أكثر أنظمة الإجرام التي مرّت على البشرية وحشية وتدميراً للبشر، وبداية مبشّرة للحرية التي تنقّلت حينها من معسكر اعتقال إلى آخر، فيما كان يسمى وقتها دول المنظومة الاشتراكية، فإنني في الحقيقة لم أقدّر قبل رؤيتي لما تبقى منه مؤخراً معنى جدار برلين كرمز ودلالة ومفهوم.

لم أهتم قبل تاريخ 9 نوفمبر 1989 يوماً بجدار برلين، ولم يشكّل لي وجوده في العالم أمراً يستحق التوقف عنده والتفكير به لوقت طويل، باعتباره أمراً خارج المنطق والمألوف، وكانت الدعاية التي عشنا في ظلها تقول بأن مستقبل البشرية يُصنع في العالم الاشتراكي الذي كانت ألمانيا الشرقية تشكل جبهة المواجهة المباشرة له مع جبروت الغرب الإمبريالي، الذي يريد تدنيس الجنة الاشتراكية وتخريبها وتدمير مستقبل البشرية.

ولم نفهم في يوم من الأيام أو نسأل أنفسنا على الأقل لماذا لم يتوقف مواطنو الحلم الاشتراكي الكبير بناة التاريخ وأمل البشرية يوماً عن المغامرة بحياتهم للهرب من جنة برلين الشرقية إلى جحيم برلين الغربية، وكان التفسير الأسهل لنا في حينها بأن هؤلاء عملاء وجواسيس مُشترون من الإمبريالية، ويستحقون الموت جراء خيانتهم، وتتفيهاً لقيمة الحرية كنا نقارنها بالعواء، حين نروي نكتةً تقول بأن سلطات ألمانيا الشرقية قبضت على كلب هارب من برلين الشرقية إلى الغربية، وعند التحقيق معه سألته عن سبب هروبه، فأجاب بأن كل شيء متوافر لديه: الطعام والطبابة والتعليم، فسألوه عندها: ولماذا هربت إذاً؟ فقال: لأني أريد أن أعوي.

نعم تغيّر الزمن بعد سقوط منظومة الإجرام الدولية التي كانت تسمى الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي، وتغيّرنا معه أو ربما قبله بقليل، ولكن كل مشاهد الاحتفال بسقوط جدار برلين في حينه، وكل الكتب والأفلام التي نشرت وانتشرت بعدها عن مآسي تلك الحقبة السوداء في تاريخ البشرية، لم تستطِع أن تنزع من رؤوسنا صورة العالم الاشتراكي المشرق الذي استطاعت مؤامرات الإمبريالية تدميره والقضاء على حلمه الجميل، وبطريقة من الطرق كنا قادرين على جمع المتناقضات معاً والموازنة بين الحلم بالحرية والتوق لها، وفي نفس الوقت الأسف على معسكرات الاستبداد الشيوعية التي دُمّرت بتآمر غربي.

لكن هذا تغيّر فجأة قبل أيام عندما زرت برلين لأول مرة قبل أيام، وتحوّلت زيارة سياحية عادةً ما يقوم بها زائر برلين لرؤية جزء من الجدار المتبقي في أحد الشوارع إلى ما يشبه الوقوف فجأة أمام مقبرة جماعية، والجدار لم يكن أقل من ذلك أبداً، حين ترى كل الأفكار الحارة والأحلام المزركشة التي وعدت بها الشيوعية ليست أكثر من زنازين وأقبية ووسائل تعذيب وقبور وجماجم وطرق إعدام ووسائل موت، وأنها في أحسن أحوالها لا تقل سوءاً عن النازية، وأن كل مديح كيل لتجربتها لم يكن أكثر من محاولة تجميل جثة، وأن كل ما قاله أعداؤها فيها لم يفها حقها ويشرح حقيقتها، وأن هؤلاء الذين طالما اتهموا بالعمالة والتآمر لمجرد أنهم حاولوا البحث عن حياة أفضل وخاطروا بأرواحهم وهم ينتقلون بين شطري مدينتهم المقسّمة، كانوا أبطالاً ورموز حرية، وأول من ضرب معولاً في الجدار.


على بقايا الجدار في برلين امتحنت وتأكدت من الكابوس الذين ظننته أنا وغيري ذات يوم حلماً، ومن شرفة تطل عليه تأملت كيف مدّه حافظ الأسد إلى حياتنا في دمشق، وكيف يحاول السوريون منذ نهاية السبعينات في القرن الماضي وحتى اليوم تحطيمه وهدمه واجتيازه نحو الحرية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد