الأسباب العميقة لظهور داعش

التنظيم ارتكز في نشوئه وتمدده على الأمراض المزمنة التي يعاني منها المجتمع العربي منذ أكثر من قرن، ونزعم هنا أن الأمراض كثيرة جداً، ولعلّ أبرز هذه الأمراض: (غياب الهوية، الاستبداد، الفهم الخاطئ للدين ووظيفته)

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/30 الساعة 04:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/30 الساعة 04:32 بتوقيت غرينتش

يخطئ من يعتقد أن ما يسمى "تنظيم الدولة الإسلامية" مجرد تنظيم عسكري متطرف ذي مرجعيّة دينية تكفيرية ترفض الآخر وحسب، ويخطئ أيضاً -فيما نزعم- كلُّ من يعتقدُ أنَّ المظلومية التي تعرض ويتعرض لها المسلمون السنة، السبب الوحيد وراء نشوء وتمدد التنظيم بهذا الشكل السرطاني، فهناك أسباب عميقة تمتدُّ عقوداً شكلت مرتكزاً ومنطلقاً لولادة التنظيم وتمدده..

من يتمعن مسيرة التنظيم منذ الولادة في العراق وتمدده إلى سوريا ومصر وغيرهما، ويدرس خطابه الديني الراديكالي، ويربط ذلك بمسيرة الحراك السياسي والديني منذ سقوط الدولة العثمانية (الخلافة) ونشوء الدولة العربية الحديثة يجد أن التنظيم بالرغم من كونه حالة مرضية جاء نتيجة طبيعية لأمراض المجتمع العربي الممتدة عبر هذه السنين.

فالتنظيم ارتكز في نشوئه وتمدده على الأمراض المزمنة التي يعاني منها المجتمع العربي منذ أكثر من قرن، ونزعم هنا أن الأمراض كثيرة جداً، ولعلّ أبرز هذه الأمراض: (غياب الهوية، الاستبداد، الفهم الخاطئ للدين ووظيفته)
وهذه الأمراض وغيرها أدت حقيقة لغياب مفهوم الدولة والمواطنة في الدول العربية الحديثة، إذ بدت هذه الدول أشبه بمزارع يتحكم بها أمراء حرب استولوا على السلطة بانقلابات عسكرية أو ورثوها كأي تركة أو أثاث.

فيلحظ المُراقب المنصف مقدار الشرخ العميق بين السلطة المتحكمة المستحوذة في كل شيء، وبين الشعب المسحوق الواجب عليه طاعة ولي الأمر طاعة عمياء، كما ربطت الأنظمة العربية الدولة الحديثة بأشخاصهم، وحرصت هذه السلطة على تمييع مفهوم المواطنة، ولم تسعَ حقيقة لجمع المواطنين على هُوية جامعة لأبناء الوطن، فقد ربطت هذه الحكومات الوطن بأشخاص بعينهم فربطت مصر بعبد الناصر ومن جاء بعده، ولا يخفى محاولة السيسي الآن ربط مصر بشخصه رغم أنه وصل بانقلاب على الشرعية الشعبية، وربطت سورية بعائلة الأسد، والعراق بصدام، والأردن بالهاشميين، وليبيا بالقذافي، وهكذا غابت الهوية الجامعة بعد أن اختصر الوطن بفرد أدار الوطن بعقلية أمنية، واختصر مفهومه بالكرسي.

هذا التشويه للهوية جعل كثيرين يبحثون عن هوية (انتماء) تجمعهم تتجاوز الفرد (الإله)، وأسفر البحث عند كثيرين لإعادة استلهام مفهوم (الخلافة) باعتبارها هوية عابرة للقوميات والأعراق محطمة للحدود، وركّز الخطاب الداعشي على هذا المفهوم (الخلافة) وحاول تغييب صورة الخليفة عمداً، فمفهوم الخلافة جامع، وبما أنّ الخليفة قد يُذَكِّرُ بالحكام المستبدين الحاليين وبكثير من الخلفاء الظالمين، فقد تمّ تحاشي الخليفة، ومن يتتبع الخطاب الداعشي يلحظ بشكل واضح التركيز على الشورى التي انتخبت الخليفة وقادرة على عزله، وهو بذلك يدغدغ مشاعر مكبوتة، ونفوساً تتطلع لأن يكون لها دور في بناء الدولة خلافاً للواقع الذي كرسته الأنظمة العربية التي تحولت مجالس الشعب والبرلمانات فيها لدمى لا تجيد سوى التصفيق.

وطرح التنظيم شعار "خلافة راشدة على منهاج النبوة" ليتحاشى أيّ نقد، فهو يسعى لحكم راشد على منهاج الخلفاء الراشدين حيث لا تسيطر العائلة على مقدرات البلاد، وحيث لا يكون الحكم وراثياً، وبذلك فلا مستبد، ولا استبداد في دولة الخلافة. وبذلك جمع داعش عناصره على هوية محددة المعالم واضحة تعطي الفرد حقاً بالمساهمة الفعالة في بناء الدولة والعمل بشكل حثيث على بقائها وتمددها، ولا نسلم هنا بصدق الشعارات إنما نوضح الدعاية والخطاب الذي تبناه التنظيم (الذي لا يختلف في كذبه ودجله عن سلطة الاستبداد) وأقنع به شريحة من الشباب المسلم العربي وغير العربي.

ولعب الاستبداد العربي دوراً كبيراً بإقناع الشباب العربي بالخطاب الداعشي المضلل، فقد اقتنعت شريحة بأنه لا يوجد أسوأ من الاستبداد العربي الحالي، وكل تجربة مهما كانت سيئة ستكون أفضل منه.
وعندما يغيب النموذج المشرق، ويتحكم الرديء بمقادير الأمور يسعى الإنسان نحو نماذج افتراضية أفضل، وهنا عمل الاستبداد العربي جاهداً على تغييب هذه النماذج الافتراضية، ووقف ضد أية حركة إصلاحية لأنه يدرك أنها ستكون بداية النهاية له فنجد في كل البلدان العربية الحاكم الأوحد والحزب الأوحد، ومن هنا نفهم استقطاب داعش لشبان عرب مترفين، كما كانت الهوية سبباً لجذب الشباب المسلم غير العربي، فالمهاجرون المسلمون في أوروبا شعروا بأن هوية البلاد التي يعيشون فيها مختلفة عنهم، وهذا يفسر تمزيق هؤلاء لجوازات سفرهم اعتقاداً منهم أنهم مزقوا الهوية المزيفة بعد العثور على الهوية الحقيقية.

ولم يكن التنظيم لينجح هذا النجاح لو توفر فهم صحيح للدين الإسلامي، فقد حوَّل الاستبدادُ رجال الدين لكهنة ودجاجلة يفتون بأمر السلطان، فميعوا الدين وشوهوا قداسته ويبدو ذلك جلياً في معظم المؤسسات العربية الدينية، وما طلب مفتي سوريا أحمد بقصف حلب، وتأييد الأزهر لانقلاب السيسي على إرادة الشعب إلا مثال على ذلك، ومن اعترض وخرج عن الصف زج به في السجن، أو نُفي أو لاحقته عيون الأمن بحركاته وسكناته وهذا ما حصل في سوريا في أواخر سبعينات القرن الماضي وبداية الثمانينات، وحصل مثله في معظم البلدان العربية، ولم تواجه السلطة التيار الإسلامي بالحجة أو بصندوق الاقتراع لأنها تفقد الحجة ولا تعرف للديمقراطية سبيلاً، مما دفع شريحة من المعترضين لهذه الممارسات لليأس والإحباط من التغيير السلمي، والإيمان بأن التغيير لن يحصل إلا بالقوة، وحصل تناسب طردي بين القمع من جهة والتطرف من جهة أخرى، فكلما كثر العلماء المنافقون وزاد القمع قوبل ذلك بتطرف أشد، ويخشى أن توفر هذه البيئة حاضنة لداعش في مصر التي تسير بنحو مقلق نحو طريق مجهول.

تضافرت هذه الأمراض (الأسباب العميقة) وغيرها في نشوء تنظيم الدولة، وسيكون هناك ما هو أسوأ ما لم يعالج المجتمع العربي أمراضه، فداعش مرض مركّب من أمراض، ويبدو أن النظام العربي الحالي، ومعه القوى الدولية المؤثرة لا تريد للعرب شفاءً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد