يبدو أن نهر النيل الذي خطف ألباب الوافدين وأبهر عيون القادمين إلى مصر، وتبارى الشعراء في نظم القوافي عشقاً وهياماً به وغراماً فيه، وغنى له كبار المطربين، وتسلطن معه الموّالون والمداحون، كل ذلك المشهد في طريقه ربما إلى الاختفاء والاندثار، بعد أن تكتمل منظومة السدود الإثيوبية، التي تستهدف نقل إثيوبيا من دولة ذات اقتصاد هش فقير إلى اكثر الدول الإفريقية إنتاجاً للطاقة النظيفة بمقدار 40 ألف ميجاوات، والبداية من السد الإثيوبي العظيم، أو سد النهضة، الذي تستهدف من ورائه إنتاج 6 آلاف ميجاوات ستبيعها للسودان وكينيا وجيبوتي ودول أخرى، ربما من بينها مصر.
وبالرغم من أنه لا أحد يرفض أبداً أن تتطور الدول وأن تنمو اقتصاداتها، لكن الواضح والثابت أنه لم يرَ الاقتصاديون اقتصاداً قام على الطاقة المولدة من مياه الأنهار فقط، ولم يعطِ القانون الدولي الحق لأحد في أن ينفرد بقرار في مصير نهر يعتبر الشريان الرئيسي لـ100 مليون إنسان، أو أن يبني ويمنح ويمنع ما يشاء من المياه لممر مائي يمر ببلدان تتشارك وتتشاطر مياهه وتعيش داخل حوضه.
إن الحديث اليوم عن حقوق مصر التاريخية في مياه النيل وحق مصر في مقاضاة إثيوبيا، وحتى التحكيم الدولي، أصبح أمراً متأخراً، وإن الأمر صار بأيدي إثيوبيا، فهي المتحكم فعلياً الآن في مياه النيل، ومصر الآن ما عليها إلا أن تقف وتنتظر هل ستأتي مياه النهر أم لا؟ وخاصة بعد أن قامت مصر بالتوقيع على اتفاقية مبادئ تجاهلت الحقوق التاريخية المصرية وحق الإخطار المسبق لبناء أية سدود، وفي نفس الاتفاقية رفضت إثيوبيا الالتزام بأي شيء سوى أن تكون لكل دولة السيادة على الجزء الذي يمر بها من مياه النهر، وهذا أيضاً في مصلحة إثيوبيا؛ لأنه يعطيها الحق في إلغاء الإخطار المسبق لمصر والسودان، وأن تفعل إثيوبيا ما تشاء في النيل الأزرق، الشريان الرئيسي لنهر النيل.
شيء ما ذكرني، وأنا أشاهد مشاهد العطش وبوار الأرض الزراعية وهلاك الزراعات في قرى مصر، كل ذلك ذكرني بأغنية "النيل نجاشي"، ما زلت أذكر الأغنية التي طالما شاهدناها على تليفزيون الدولة المصرية، وبثت على أثير الإذاعة التي غناها الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب، في فيلم الوردة البيضة، الذي أنتج في عام 1933، وهي في الأساس أبيات شعر نظمها أمير الشعراء أحمد شوقي، حين قال:
النيل نجاشي … حليوة أسمر
عجب للونه دهب ومرمر
أرغوله في إيده
يسبح لسيده
حياة بلدنا
يا رب ديمُه
وكان شوقي أراد أن يقول إن هذه المياه قادمة من عند أهل الحبشة أحفاد النجاشي، الملك العادل الذي لا يظلم عنده أحد، ولم يكن يدري لا بخلد أمير الشعراء ولا موسيقار الأجيال أن مصر سيأتي عليها يوم تغني فيه هذه الأغنية، ولكن بدلاً من أن تقول: "النيل نجاشي"، ستقول : "النيل ما جاشي"، بعد أن أظهرت المشاهد عدم وصول المياه إلى أراضي الفلاحين في الوجه البحري، وخصوصاً في محافظة كفر الشيخ التي حاول فلاحوها أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه من محصول الأرز، لكن غياب مياه النيل لم يستطع تعويضها شيئاً، وجفت الأراضي، وماتت "زراعة الفلاحين".
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال هو: إذا كانت هذه هي المقدمات ولم تبدأ إثيوبيا بعد في افتتاح المرحلة الأولى من "سدها العظيم" الذي من المتوقع أن يحجز 100 مليار متر مكعب من المياه فماذا ستكون النتيجة لو بدأ السد في العمل وجاء الفيضان القادم في أغسطس/آب ونقصت حصة مصر بمقدار يصل إلى 20 مليار متر مكعب على أفضل تقدير من إجمالي 55 مليار متر مكعب؟ وماذا يمكن أن يفعل الحاكم الذي سلم بما حدث وذهب يبحث عن البدائل واعدا ًباستخدام مياه الصرف الزراعي التي هي بالمناسبة تتم إعادتها كلها ويتم استخدامها، ورغم ذلك فهناك عجز في المياه؟
لكن يبدو أن الأغنية التي تغنت في النيل وفي المراكبي الآن أصبحت شاهداً على أن من يقود الدفة قد فقد الطريق، وجنح مركب الوطن في أخطر منعطف من تاريخ الوطن، وما نظمه شوقي وغناه عبدالوهاب قائلاً:
صلح لي قلوعك يا ريس
جات الفلوكة والملاح… ونزلنا وركبنا
حمامة بيضا بفرد جناح … تودينا وتجيبنا
ودارت الألحان والراح … وسمعنا وشربنا
صلح لي قلوعك يا ريس
ويبدو أن الرئيس فقد القلوع والدفة والوجهة وأصبح مفتاح المياه عند جاره إن شاء أعطاه، وإن شاء منعه عنه، فلم يعد يجدي معه أي إصلاح أو صلاح.
وهكذا فإن النيل الذي كان يأتي حاملاً رسالة حب من أحفاد النجاشي للمصريين قرر أن يغيب بفرمان من إثيوبيا، وبعض القوى الإقليمية، وربما من أضاعوا الحقوق التاريخية المصرية ممن فاوضوا وتنازلوا ورضخوا للشروط الإثيوبية.
للأسف لن تسمع أغنية عبدالوهاب في موسم الفيضان هذا العام "النيل نجاشي" لا لأن الاغنية اختفت أو ضاعت أو تلفت، أو لأنها أغنية يتيمة مات شاعرها أمير الشعراء، وغاب مغنيها موسيقار الأجيال، وإنما لأنه لم يعد لها وجود بعد أن بدأت مياه النيل في النقصان، معلنة أن "النيل ما جاشي".
* إعلامي مصري متخصص في الزراعة والري زار موقع السد عدة مرات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.