من ابتكاراته المشهود له بطول الباع فيها، اخترع نظام الأسد ( الأب والوريث) أشكالاً كثيرة ومتنوعة لكيفية إنشاء تجارة رابحة دون رأسمال، يكتم فيها أنفاس مؤيديه ويربطهم به ربط البغل بالعربة، ومن أبرز هذه الابتكارات التجارية، التي أبدع فيها، وأكثرها حضوراً في حياة السوريين، تجارة "المنع من السفر"، التي تحتل المرتبة الأولى في جدول اختراعاته، التي تستنزف جيوب أبناء الشعب السوري، الذي لا حول له ولا قوة، وتتركهم في حالة رعب دائم من مصير مجهول لا يعرفون سببه.
وقد نقل عن اللواء مصطفى التاجر، أحد أبرز جلادي الشعب السوري في زمن الأسد (الأب) ورئيس فرع فلسطين، سيئ الصيت، أنه يُقدر مدخول ضباط الأمن وعناصره من هذه التجارة، في محافظات الشمال السوري لوحدها (الرقة ودير الزور و الحسكة)، بنحو مليار ليرة سورية سنويا ( نحو 25 مليون دولار بقيمة ذاك الزمان)، كما تقدر بعض منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان أن منع السفر يشمل ربع السوريين، أي أكثر من خمسة ملايين سوري!!
فتخيل المبالغ الفلكية التي يدفعها السوريون للخلاص من قوائم منع السفر ..!!
لا تحتاج -في سوريا الأسد- إلى ارتكاب جريمة ما ليوضع اسمك في قائمة الممنوعين من السفر، ومن ثم تعميمه على جميع المنافذ الحدودية؛ لتقضي بعدها سنين من عمرك وأنت تراجع الفرع الأمني الذي أمر بوضع اسمك في القائمة، كي تدفع المعلوم وتُمنح موافقة سفر لمرة واحدة أو لعدة سفرات خلال عام واحد !!
بالمقابل لا تحتاج فروع الأمن السوري إلى قرار قضائي لمنعك من السفر؛ لأن كل مدير إدارة جهاز أمني (عددها عشرون بعيون الحساد!) أو ضابط في فرع أمنٍ من الفروع المتناثرة في أرجاء سوريا من أقصاها إلى أقصاها، يستطيع إصدار مذكرة لمراجعته ومنعك من السفر، دون حاجة لمسوغات قانونية. وإن احتاجوا -مضطرين- لتبرير فعلتهم هذه (إذا صادف وكنت شخصية معارضة مهمة تأتي لهم "بوجع الرأس"، أو قد تربكهم باحتمال اهتمام منظمات حقوق الإنسان بمنع سفرك)، فإن جيشاً من آلاف القضاة يتطوع لإصدار الحكم القاضي بمنعك من السفر، وذلك كنوع من ردهم الجميل للأفرع الأمنية، التي ما كانوا صاروا قضاةً لولا أنها راضية عن "حسهم الأمني الوطني"، فمنحتهم الموافقات الأمنية اللازمة لتعيينهم قضاةً، وسكتت عنهم، وغضّت النظر عن حملهم قرارين إلى قوس الحكم، واحد منهما يعاقبك على جريمتك، والآخر يبرئك منها؛ لأنك إذا عرفت كيف توصل "المعلوم" إلى جيوب قفاطينهم الواسعة، ستحكم بالبراءة، حتى لو كنت قاتلاً أمام كاميرات التلفزيون!
وضع اسمك في قائمة الممنوعين لا يُلزم الإدارات الأمنية وفروعها بالبحث عن مبررات !
يكفي أن يخدمك (!!) زميل من مخبريهم في الدائرة التي تعمل فيها، ويكتب تقريراً يضمنه كلمة قلتها في ساعة غضب، محتجاً على ممارسة غير قانونية لمديرك المدعوم منهم في المؤسسة التي تعمل بها، أو أنك تمنعت عن دفع رشوة طلبها موظف راجعته في أمر يخصك، فيتبرع المذكور ويلزق بك تهمة لا تخطر على بال عاقل!
ويكفي إن كنت جامعياً تؤدي خدمتك الإلزامية، وصادف أن أزعجت المساعد المتطوع في جيش الوطن، ولم توافق على سرقته لـ"صفط بيض" (30 بيضة) وبعض الكيلوغرامات من اللحمة والفاكهة والفراريج من الطعام المخصص لزملائك في القطعة العسكرية التي تخدم بها، فتضطر "حضرة جنابه" إلى رفع تقرير لضابط الأمن عن فعلتك وعن انعدام حسك الوطني، الذي بدوره يرفعه للأعلى؛ لتمضي بعدها عقوداً من عمرك لائباً من فرع لآخر، كي تثبت وطنيتك وسلامة حسك الوطني، وغبائك حين شككت بنية المساعد، معتذراً ومؤكداً أنك أخطأت في فهم سلوكه فسميته سرقة.. إنه -يا بهيمة- لم يكن يسرق.. كل القصة وما فيها أنه يريد إطعام "عياله" أبناء الوطن والقائد!!
إنك -يا بهيمة ثانية- تشكك بحكمة القائد والقيادة الذين قبلوا تطوعه كي يدافع عن الأرض ويستعيد لك الجولان المحتل، الذي تسرح وتمرح إسرائيل فيه هانئة مستمتعة بثلجه ومياهه العذبة!
أما إذا صادف وكان فرد من عائلتك، أو أحد أقربائك الذين تلتقيهم في الجد السابع، معارضاً فهنا الطامة الكبرى!
في هذه الحالة الشائعة لن يمنعك فرع واحد من السفر بل ستمنعك فروع الأمن كلها، ولن يشملك لوحدك، بل سيشمل المنع كل أفراد عائلتك "الكبير منهم والمقمط في السرير"، وكي تحصل على موافقة السفر عليك أن ترضي رؤساءها ومحققيها ومفاتيحها، وأن تمتلك صبر أيوب حين تراجع هذه الفروع، وتتحمل إهانات حراس الفروع ومحققيها ورؤسائها!
أما إذا اخترت أن تكون من جماعة "لا أسمع ولا أرى ولا أتكلم" و"نمشي الحيط الحيط ونطلب من الله السترة "، فلا تظنن أن ذلك يحميك ويبعدك عن قائمة الممنوعين من السفر، إذ قد يكون صمتك وعماك وطرشك تمويهاً على اشتراكك في مؤامرة سرية على هيبة الوطن وقائده المفدى!
شخصياً حظيت بهذه (المكرمة) منذ عام 1982 وحتى 2011، بسبب ابن عم هرب إلى العراق خوفاً من بطشهم وتوفي فيها، ومن يومها كل أفراد عائلتنا -صغاراً وكباراً- ممنوعون من السفر، ويخضعون إلى مراجعات دورية لفروع الأمن المتنوعة، لإثبات أنهم لم يتواصلوا مع قريبهم، والمضحك في الأمر أننا بقينا نخضع لهذا التفتيش الدوري حتى بعد وفاته، التي علموا بها قبلنا وأخبرونا هم بها.
كنت أضطر في كل مرة أنوي السفر فيها إلى أحد أمرين، إما البحث عن شخص/مفتاح له "مونة" على الضابط المسؤول عن الفرع، كأن يكون فناناً من أصدقائي (رحمكما الله يا يوسف حنا ويا خالد تاجا) يرافقني عند تقديم طلب الموافقة على السفر.
في هذه الحالة كنت أحظى بفرصة "التعريم والانتفاش" وأنا أمر أمام الحارس الذي يذيقني عادة -في المرات السابقة- الأمرّين، وأنا أقف ناطراً أمام باب الفرع، خروج كتاب الموافقة، وغالباً ما يتم رفض الطلب، عندها يزخ علي الحارس كلماته المعسولة، وأعرف أنني لو كنت مواطناً صالحاً، ومحباً لقائد الوطن، لوافق مدير الإدارة على سفري، لكنه رفض لأنني خائن، ويجب سجني، وتعليق مشنقتي، كله على ذمة الحارس حامي حمى الوطن والفرع الأمني!
أما في حالة اضطرارك للاستنجاد بـ"المفتاح مدفوع الثمن" -ولكل مسؤول مفتاحه- فعليك أن تبحث عن القنوع منهم، الذي يرضى بالقليل، لا أن تخطئ فتقع فريسة لمن لا يشبع، ويصر على أن تكون حصته معادلة للحصة التي يدفعها لمدير الفرع، كما حدث معي عندما أردت الحصول على موافقة للسفر، عن طريق صديق -فك الله أسره- على معرفة بوزير الإعلام الحالي عمران الزعبي، صهر طائفة الرئيس، الذي تجمعه بصديقي زمالة كمحامين، ولم يقبل سعادة الوزير(آنذاك كان محامياً وحتماً رفع التسعيرة اليوم) إلا بخمسين ألف ليرة (يومها تزيد قليلاً عن الألف دولار) قبضها، وأمّنَ لي خلال يومين الموافقة الأخيرة، التي سافرت بها "سفرة لم أعد بعدها" إلى حضن الوطن!
منعك من السفر لا يكلفهم إلا كتاباً من سطرين له رقم وتاريخ يرسلونه إلى إدارة الهجرة والجوازات، وهي وبكبسة زر تعمم الاسم على المنافذ الحدودية، وإذا كانت أمك قد دعت لك في ليلة القدر، واستجيب لها، فعثرت على من يستطيع حذف اسمك من القائمة، وإعادتك إلى حظيرة المواطنين الصالحين، فإنك ساعتها تحتاج إلى "تزييت" عشرات الأقلام والأزرار التي تبدأ بحاجب ورجل أمن صغير حتى تصل إلى صاحب الختم الموعود الذي يأمر بإزالة الاسم.
طبعاً سيدعون لك بسفر مريح والعودة سالماً؛ لأن عودتك تهمهم، فأنت أصبحت من رجالات القائمة الاحتياطية، واحتمالات عودتك إلى قائمة الممنوعين كبيرة، وهذا يساعد على بقاء حنفية الدفع مفتوحة ..!
تنويه من الكاتب:
حدث في التدوينة السابقة أن ذكرت اسم السيدة هاجر صادق كواحدة من الذين كانوا من اسطول تجارة المعتقلين في نظام الأسد. وقد تسنى لي معرفة أن مصدر المعلومة كان على خطأ .
أرجو المعذرة منكم ومن عائلة السيدة هاجر، وأتمنى على المواقع التي أعادت نشر المدونة تصحيح هذا الخطأ، وأنا أتحمل مسؤوليته، وما يمكن أن يترتب عليها .
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.