إذا صحّ لنا أن نتحدّث عن التغيرات السياسية الكبيرة التي يجب رصدها وتسجيلها في تاريخ الشعوب والأمم، فإنه ينبغي توثيق الخامس والعشرين من شهر مايو/أيار 1981 كعلامة تحوّل فارقة في تاريخ شعوب الخليج العربي؛ حيث تداعت هذه الدول للإعلان عن إنشاء كيان جامع لهم يحمل مسمى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي يجري هذه الأيام الاحتفاء بالذكرى (35) لتأسيسه.
وبالرغم من كلّ ما يُقال عن هذا الكيان الخليجي من تواضع إنجاز أو أنه أقلّ من الطموح أو الأمنيات أو تأخر اتحاد أو ما شابه ذلك، فإن هناك مكتسباً حقيقياً وكبيراً لمجلس التعاون يجب عدم إغفاله أو الاستهانة به، ويتمثل في صموده واستمراريته كل هذه السنوات (35 عاماً)، أي ما يقارب ثلث قرن دون أن ينفرط عقده أو تتآكل قاعدته، بالرغم من الهزات والمشكلات المتنوعة التي عصفت بالمنطقة، بل والحروب التي شبّت في أطرافه وحوله؛ حيث بقي متماسكاً ومترابطاً، وذلك بخلاف مؤسسات وروابط وتحالفات قامت في أقاليمنا العربية والإسلامية لم تستطع البقاء، وتفككت في غضون بضع سنوات قليلة، بينما دول مجلس التعاون أبقت على كيانها وعلاقاتها وأجهزة هذه المنظومة طيلة هذه العقود الزمنية من دون أن تصيبها عوامل الضعف أو التفكك التي أصابت كيانات وتحالفات أخرى، وذلك في حد ذاته إنجاز ومدعاة لأن يُفتخر به، خاصة أثناء احتفالياتنا بذكرى تأسيسه الخامسة والثلاثين.
أسباب بقائه وصموده كثيرة، بعضها يتعلق بحنكة قادة دوله وحكمتهم، وأخرى بظروفهم السياسية، لكن السبب الأقوى هو أنه -ربما- لا توجد على وجه هذه الأرض شعوب متقاربة ومتداخلة ومتصاهرة ومترابطة مع بعضها مثل شعوب دول مجلس التعاون، وهو سبب كافٍ في ظل المتغيرات والتحديات الإقليمية والدولية الراهنة، وبعد كل هذه العقود من السنوات أن ينتقل هذا الكيان من طور التكامل إلى مرحلة الاتحاد إعمالاً وتحقيقاً للهدف من إنشائه في العام 1981، والمعلن في نظامه الأساسي الذي ينصّ على أن الهدف هو" تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولاً إلى وحدتها، وتوثيق الروابط بين شعوبها".
ليست الظروف الإقليمية الراهنة وحدها هي التي تتطلب الانتقال إلى مرحلة الاتحاد رغم جسامة هذه الظروف وخطورتها؛ بل إن المقاربة أو المقارنة بالكيانات الوحدوية الموجودة في عالمنا اليوم الذي تستأثر بالقوة والقرار في تكتلاته السياسية والاقتصادية، مثل الاتحاد الأوروبي الذي يتكوّن حتى الآن من (27) دولة بين أنظمتها وشعوبها من الاختلافات والفروقات الدينية والمذهبية والقومية والعرقية الكثير، وكذلك في لغاتها وجغرافياتها، بل وبين بعضها حروب وصراعات تاريخية معروفة، مثل حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا، ومع ذلك لم تقف تلك الأمور عائقاً دون وحدتهم وتجاوزهم لخلافاتهم التاريخية وفروقاتهم الحالية، بل وكوّنوا هؤلاء الـ(27) دولة اتحاداً قوياً له مؤسساته ومجالسه ونفوذه وعملته وقراراته و… إلخ، هذه المقاربة والمقارنة تستدعي وضع قطار مسيرة مجلس التعاون على سكّتها السليمة وخطّها الذي رسمه لها نظامها الأساسي بداية التأسيس فما عادت الظروف والوضع الإقليمي والأخطار المحيطة بهم تحتمل غير سلك هذه الطريق (وصولاً إلى وحدتها).
أيضاً حري بنا اليوم، ونحن نحتفل بذكرى التأسيس الـ (35) لأن نستذكر بكل الوفاء والتقدير أن أصحاب فكرة إنشاء كيان مجلس التعاون لدول الخليج العربية على وجه التحديد هما: المغفور له بإذن الله الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير دولة الكويت، والمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، أي أن أحدهما كان يقود (الكويت) وهي أقرب نقطة التقاء خليجية مع إيران في شمال الخليج، والآخر كان يقود (الإمارات) وهي أقرب نقطة التقاء خليجية مع إيران في جنوبه، وأن دافع بروز هذه الفكرة إلى العلن وحيز التنفيذ هي الحرب الضروس التي دارت رحاها آنذاك، قبل حوالي أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، بين العراق وإيران، وارتأت هذه الدول العربية الست، قيادات وشعوباً، حفظاً لمقدراتها ومكتسباتها، وتعزيزاً لعلاقاتها وروابطها الدينية والاجتماعية أن تنشئ هذا الكيان المحتفى به اليوم.
وأحسب أن الخطر الذي دفع أولئك القادة للتأسيس آنذاك؛ لا يزال ماثلاً، وبتهديد وصورة أكبر لا تتناسب مع حالة البطء التي تنشدها عموم الشعوب الخليجية في الانتقال إلى مرحلة الوحدة الخليجية التي نطمع إلى أن تكون جداراً حامياً من المخاطر والأطماع الجمّة التي تحيط بهذا الإقليم، وتكاد تعصف باستقراره وتستولي على مقدّراته ومكتسباته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.